من الرباط
ذ.أحمد براو
عطور وأجواء مدينة الرباط توحي في هذه الأيام بدنو شهر الغفران، نسائم وروائح الأفران الشعبية وهي تهيئ المأكولات الرمضانية تنبعث بين الدروب والأحياء، الأسواق تعج بالرباطيين وهم يتسوقون بكل ما أنجبته تقاليدهم العريقة الأندلسية والأمازيغية والفاسية استعدادا لاستقبال الضيف الكريم من كل ما يحتاج إحسائه الصائمون في أوقات الإفطار والإسحار، الحلويات المتنوعة، الزميطة و السفوف، المخرقة والبريوات، وجميع أنواع الرغائف ذات الحشوات المعمرة بالخليع والدسائم، والحلويات المتنوعة، والتمور والجوز واللوز والزبيب والنكهات المتداخلة.
لن تستطيع الصبر على ما ينبعث منها وتستنشقه الأنوف من روائح حتى تقف أمام البائعين وتشتري لك ولأهلك بعض من هذه المقتنيات التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من عادات الإستقبال لشهر الصيام والقيام والصدقة وصالح الأعمال، الإنطباعات التي تبدو عليها ساكنة المدينة تظهر أنهم يتزاورون بينهم ويصلون أرحامهم ويتبادلون الهدايا والقبلات ويتفقدون بعضهم البعض والنساء تمرّرن هاته العادات العريقة لبناتهن الحسان لتحافظن على ما تمتاز به الرباطيات من فنون الحلويات والمطبخ المغربي الرفيع، والذوق الراقي في الحركات والكلام الموزون.
– مدينة تحوّلت وازدادت جمالا وبهجة
منذ مدة لم أزر هذه المدينة التي يملأ حُبُّها كياني، وأعرف كل زقاقها وأحيائها وشوارعها والتي ولدت وترعرعت وقضيت أحلى أيام حياتي فيها، منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي المليئة بالمتغيرات الإجتماعية والثقافية والسياسية، لكن ما شهدَته العاصمة الإدارية للمملكة في العشرية الأخيرة من مشاريع كبرى بدت أكثر انسجاما مع طبيعتها البيئية والمناخية بين الأطلسي ونهر أبي رقراق والحزام الأخضر والشرائط الحدودية التي تداخلت مع مركز المدينة حتى أصبحت بحق كبريات العواصم العربية والإفريقية والمتوسطية، وازدادت زينة ورونقا ما جعلها تسرق الأضواء والأنوار وتتبوأ مراتب متقدمة بين العواصم الكبرى المتجددة والمحافِظة على البيئة.
ساكنة المدينة بدت أكثر سعادة بعد هذه الأيام المباركة بسبب تأهل المنتخب الوطني المغربي لكرة القدم لنهائيات كأس العالم الذي سيقام في شهر نونبر من هذه السنة بدولة قطر الشقيقة، وخرجت في أمسية الثلاثاء للشوارع ترفع الأعلام المغربية وتردد الأهازيج والأناشيد الوطنية التي تعبر عن الفرحة العارمة لحجز هذه البطاقة الغالية، ولتتبوأ مكانة المملكة المغربية بين باقي المنتخبات الرياضية العالمية واستطاع أشبال وأسود الأطلس أن يزأرون بالبيضاء أمام الفهود الكونغولية ويرفعون الراية المغربية الحمراء والخضراء كما رَفعت باقي الدول والمنتخبات المتأهلة أعلامها بالدوحة.
– ظروف البلد الإقتصادية والإجتماعية تعكسها هذه المدينة
أمطار الخير تهاطلت هذه الأيام كذلك بهذه المدينة وباقي ربوع أرض المغرب الطيبة لتحيي الزرع والضرع وتحيي معها آمال الفلاحين والمزارعين والتجار المغاربة، وجاءت بعض معاناة قلة القطر خصوصا في الأعماق والبوادي النائية، فإن مع العسر يسرا، والله لا يخيب راجيا فقد كانت الأحوال قبل ذلك حزينة والناس تشتكي من الغلاء وقلة الحيلة، لكن رغم ذلك تعبر عن حسها الوطني والإجتماعي التضامني، وساعدت العائلات بعضها البعض في تخطي مخلفات الوباء الذي مرت به في ظروف صعبة ومؤلمة في بعض الأحيان، خصوصا بعد الدعم والمساعدة المقدمة من أبناء الجالية المقيمة بالخارج بسبب ارتفاع التحويلات المالية وضخ العملة الصعبة.
كما يحلو للبعض ترديد هذه العبارة الشهيرة بالدارجة المغربية “الحمد لله ما عندناش وما خاصناص” والتي تنم عن إيمان وصبر وقناعة ويقين بالرزاق العليم. وتعني أننا نحمد الله دائما ولو في ظروفنا العسيرة وأننا مكتفون بالقسمة التي قسمها الله لنا، تعني باختصار “ليس عندنا الكثير ولسنا في خصاصة”. صادف رمضان هذه السنة فترة الربيع الزاهية وخروج المغاربة للتنزه واستغلال العطلة المدرسية لأبناءهم ليأخذوهم لزيارة البوادي “العروبية” لأن أغلب ساكنة الرباط الشعبية لهم جذور في البوادي وقد حضروا منذ ستينات القرن الماضي للعمل والدراسة والتجارة هنا في الرباط واستقروا في أحيائه الشعبية المشهورة “يعقوب المنصور وحي التقدم والعكاري، والمحيط وغيرهم” لكن بقي
لهم ارتباط بأرض آباءهم الأصلية ولما تكون الفرصة سانحة يقومون بزيارة أهلهم وعوائلهم بالقرى وهناك يستمتعون بالمروج والأراضي المزروعة والمنتجات الحيوانية المتنوعة، فلازال المغرب بحمد الله يعتمد على الزراعة بنسبة تفوق الخمسين بالمائة ولا زال سكان البوادي أغلبية، رغم أمواج الهجرات للمدن والإستقرار في الضواحي.
– مدينتي الحبيبة ولو بعدت المسافات
كل هذه الأجواء والأحاسيس ربما لا يشعر بها الرباطيين الذي يعيشون في الرباط، لكن عندما يأتي الغريب يستشعر دفء هذه المدينة الجميلة ويستمتع بها السائح الأجنبي بسبب الترحاب والإحتضان والكرم والضيافة، ويزداد هذا الشعور لدى الرباطيين المهاجرين بالخارج عندما يعودون في العطل لزيارة ذويهم وصلة أرحامهم، وتفقد أحوال مدينتهم وبلدهم المغرب، فما بالك حينما تحرق لوعة الغربة أحدهم، وعندما لا يستطيع الزيارة لمدة تفوق ثلاثة سنوات، وهذا هو ما حصل معي وأنا أقضي هذه الأيام الرائعة، فكل هذا وذاك يترك في كياني شعور عميق بالتعلق ببلدي الأم المغرب الحبيب، ومدينتي الأخت الكبرى الرباط العاصمة، الأخاذة في السحر والجمال وروائع الحضارة المغربية.
أعقد العزم على ألا تمرّ عليّ السنة إلا وأنا بين أحضانها، أتمرّغ في تقبيلها ومداعبتها ولا أفترقها حتى أقضي نهمي وأعود أدراجي وأنا مجنون بحبها، لأني لا أصبر على لوعة فراقها لأكثر من السنة، “حب الأوطان من الإيمان” كلمة طالما ترددت على مسامعنا لكن حب الرباط يملأ الأعماق والجوانح ولا يصبر عليه من حنّ لفراق عاصمة الأنوار، أو كما يحلو للبعض تسميتها “رباط الخير”.
Share this content:
إرسال التعليق