محي الدين البكوشي
في قلب مدينة فاس العريقة، حيث تمتزج أصداء الماضي بعراقة الحاضر، يختبئ ركن استثنائي يعكس هوية المدينة الثقافية: “حفرة الليدو”. هذا الفضاء ليس مجرد سوق للكتب المستعملة، بل هو ذاكرة نابضة بالحياة، تحتضن بين رفوفها عشق الفاسيين للقراءة والمعرفة.
تعود تسمية “حفرة الليدو” إلى موقعها الجغرافي، حيث يقع السوق في منخفض يشبه الحفرة الصغيرة، ليصبح منذ عقود ملاذًا لعشاق الكتب، من طلاب وأكاديميين إلى باحثين عن كنوز أدبية وفكرية نادرة. في هذا الفضاء المفتوح، تتلاقى الأجيال حول صفحات الزمن، حيث يمكن للزائر أن يعثر على كتب نادرة تعود لعقود خلت، إلى جانب إصدارات حديثة بأسعار معقولة.
تتنوع العناوين بين الأدب، الفلسفة، التاريخ، العلوم، والدين، مما يجعل السوق أشبه بمكتبة مفتوحة في الهواء الطلق، تجمع بين عراقة الماضي وروح الحاضر.
لا تقتصر “حفرة الليدو” على كونها سوقًا للكتب، بل تحولت إلى فضاء ثقافي غير رسمي، حيث تعقد نقاشات فكرية عفوية بين مرتاديها. تجد هنا الأستاذ الجامعي الذي ينقب عن مرجع أكاديمي نادر، بجوار الطالب الذي يقتني كتابًا مستعملًا بسعر رمزي، والكاتب الذي يستلهم من أجواء المكان أفكارًا لمؤلفاته القادمة.
إنه فضاء لا يشبه غيره، حيث تتداخل أصوات الباعة مع همسات القراء وهم يقلبون الصفحات الصفراء لكتب عبرت أزمنة مختلفة قبل أن تستقر بين أيديهم.
ورغم القيمة الثقافية الفريدة لهذا السوق، إلا أن “حفرة الليدو” تواجه تحديات قد تهدد بقاءها. في زمن باتت القراءة الرقمية تفرض سيطرتها، وأصبحت الكتب الإلكترونية تنافس نظيراتها الورقية، يجد بائعو الكتب المستعملة أنفسهم أمام واقع جديد.
إضافة إلى ذلك، فإن ضغوط التحديث العمراني والتغيرات التي تشهدها المدينة العتيقة تجعل مصير هذا الفضاء مهددًا، مما يطرح تساؤلات حول مستقبله.
“حفرة الليدو” ليست مجرد سوق للكتب، بل هي شاهد على ذاكرة ثقافية لم تتلاشَ بعد، تعكس روح فاس وإرثها العلمي العريق. الحفاظ على هذا الفضاء ودعمه هو التزام بحماية جزء من هوية المدينة، وهو تذكير دائم بأهمية الكتاب كجسر يربط بين الأجيال.
وفي عالم يتسارع فيه الرقمي على حساب الورقي، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستظل “حفرة الليدو” صامدة في وجه الزمن، أم أن الحداثة ستطوي صفحاتها كما طوت العديد من المعالم الثقافية؟