عبد الباقي البوجمعاوي
مصير سوريا بعد الأسد يثير الكثير من التساؤلات والتكهنات حول مستقبل هذا البلد الذي يعاني من سنوات طويلة من الحرب والتفكك. السؤال الرئيسي هو: هل سيشهد السوريون دولة ديمقراطية جديدة تحترم التنوع وتضمن الحرية للجميع، أم أن من الهلاك الى الهلاك ؟ للإجابة على هذا الطرح، يجب النظر في عدة عوامل معقدة ومتشابكة تؤثر على الواقع السوري ومستقبله. سأستهل حديثي بواقع الدول التي عاشت ظروفًا مشابهة وتشير إلى أن إسقاط الحاكم لا يعني بالضرورة نهاية المعاناة أو بداية الاستقرار. في ليبيا مثلا أدى سقوط القذافي إلى حالة من الفوضى والصراعات على السلطة بين الأطراف المختلفة، وظهر خليفة حفتر كقائد وهو لا يقل سوء ان لم نقل أسوء من سابقه يسعى للسيطرة بالقوة. السودان عاش تجربة مماثلة بعد الإطاحة بالبشير، حيث أدى الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى اندلاع حرب أهلية دموية كارثية. اليمن لم يكن أفضل حالًا، إذ أدى سقوط علي عبدالله صالح إلى سيطرة الحوثيين وتصعيد الصراع الداخلي، فضلًا عن مطالبات الجنوب بالعودة إلى دولة مستقلة كما كانت قبل الوحدة. كل هذه الأمثلة تؤكد أن إسقاط النظام، خصوصًا الأنظمة الديكتاتورية المستبدة، غالبًا ما يكون بداية لمرحلة من الفوضى والصراعات على السلطة بدلًا من الاستقرار. الوضع في سوريا أكثر تعقيدًا وهذا راجع إلى التنوع الطائفي والعرقي الكبير الذي يميز البلاد. سوريا تضم طوائف ومجموعات متعددة، مثل السنة، العلويين، الأكراد، المسيحيين، الدروز، التركمان، الإسماعليين، واليزيديين وغيرهم الكثير، مما يجعل تسيير الدولة بعد الأسد أمرًا شديد الصعوبة ويصعب اكثر ان كانت القيادة تتبنى مرجعية ما . هذا التنوع يمكن أن يكون مصدر قوة إذا تم استغلاله في إطار دولة ديمقراطية تشمل الجميع، لكنه قد يتحول إلى مصدر صراع إذا فشلت القوى السياسية في تحقيق توافق وطني شامل. القوى الفاعلة على الأرض تضيف مزيدًا من تأزم الوضع. تنظيم قسد، الذي يحظى بدعم أمريكي كبير، يسيطر حاليًا على حوالي ثلث الأراضي السورية، بما في ذلك 80% من حقول النفط وموارد وافرة. هذه السيطرة تمنح التنظيم مقومات بناء دولة مستقلة، وهو ما يثير قلقًا كبيرًا لدى الاطراف المجاورة تركيا والعراق وحتى سوريا نفسها. من جهة أخرى، استغلت إسرائيل الفوضى في سوريا لتعزيز نفوذها في المناطق العازلة، فضلًا عن تدميرها لقدرات الجيش السوري وإضعافه بشكل كبير. تشير التقارير إلى أن إسرائيل تخطط لإنشاء “ممر داوود”، الذي سيصلها بنهر الفرات ويقطع الخط اللوجيستي لإيران الداعم لحزب الله. هذا المشروع، إذا تم تنفيذه، سيغير موازين القوى في المنطقة بشكل جذري وخلق توازنات اخرى في المنطقة سوريا تواجه سيناريوهات متعددة لمستقبلها، لكن اثنين منها يبدوان الأكثر احتمالية. السيناريو الأول هو إعلان تنظيم قسد عن دولة مستقلة في المناطق التي يسيطر عليها. هذا السيناريو، رغم صعوبته، يظل واردًا إذا استمر الدعم الأمريكي ونجحت إسرائيل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. مع ذلك، سيواجه التنظيم تحديات كبيرة، أبرزها الحصار الذي قد تفرضه كل من تركيا والعراق وسوريا عليه. السيناريو الثاني هو نجاح الحكومة السورية الجديدة ذو قيادة رصينة ورؤية بصيرة ، التي قد تتشكل بعد سقوط الأسد، في الحفاظ على وحدة البلاد ومنع التقسيم. لتحقيق ذلك، تحتاج الحكومة إلى استغلال أوراقها السياسية والعسكرية بذكاء. على الصعيد السياسي، يمكن استخدام الوجود الروسي كورقة ضغط على الدول الغربية، حيث تعتبر القواعد الروسية في سوريا نقطة خلاف كبيرة بين روسيا وأوروبا وأمريكا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لسوريا التفاوض على تقليص النفوذ الإيراني لضمان دعم دولي. أما على الصعيد العسكري، فإن التنسيق مع تركيا لقطع الدعم اللوجيستي عن قسد وفتح جبهات جديدة قد يكون حاسمًا في استرجاع المناطق التي يسيطر عليها التنظيم.الصعوبات التي تواجه سوريا في المستقبل القريب كبيرة ومتعددة. الدعم الأمريكي لتنظيم قسد يجعل أي مواجهة عسكرية معه محفوفة بالمخاطر، خاصة إذا قررت الولايات المتحدة التدخل بشكل مباشر. النفوذ الإسرائيلي في المناطق الحدودية يزيد الوضع تعقيدًا، حيث تستمر إسرائيل في تحقيق مكاسب استراتيجية توسعية على حساب ضعف سوريا. بالإضافة إلى ذلك، التنوع الطائفي الكبير في سوريا يجعل من الصعب تحقيق توافق داخلي دون وجود قيادة قوية ورؤية واضحة .في سوريا اليوم، يقف الوطن على مفترق طرق، حيث تسعى بعض القيادات ذات التوجهات الأحادية لإحكام قبضتها على المستقبل، متجاهلة تعقيدات التنوع الطائفي والعرقي. مثل هذه القيادات لا تحمل رؤية جامعة، بل تزيد الانقسام وتعمق الجراح، مما يجعل بناء دولة موحدة أمرًا بعيد المنال. في ظل هذا الواقع، لا يمكن تحقيق الاستقرار إلا بقيادة شاملة تعترف بالتنوع كقوة، وتضع مصلحة الوطن فوق المصالح الشخصية أو الفئوية. بدون ذلك، سيظل الوطن عالقًا في دائرة الفوضى، معرضًا لمشاريع التقسيم التي تهدد وحدته ومستقبله ،مستقبل سوريا يعتمد بشكل كبير على قدرة القوى السياسية والعسكرية على اتخاذ قرارات استراتيجية تحافظ على وحدة البلاد وتمنع تنفيذ مشاريع التقسيم التي تسعى إليها بعض الأطراف الإقليمية والدولية. الأشهر القادمة ستكون حاسمة في تحديد مصير سوريا، حيث ستشهد على الأرجح صراعات جديدة وتطورات قد تغير ملامح المنطقة بأكملها. السؤال الكبير الذي يبقى مطروحًا هو: هل ستنجح سوريا في تجاوز هذه التحديات والحفاظ على وحدة أراضيها؟ أم أن مشروع التقسيم سيصبح واقعًا لا مفر منه كسبقتها ؟
Share this content:
إرسال التعليق