من منطق الإنجاز إلى أفق الإنصاف: قراءة في خطاب العرش لسنة 2025 في ضوء تطور العقل الاستراتيجي المغربي

ذ.جُلال ياسين باحث في العلوم السياسية

لا يُعدّ خطاب العرش مجرد لحظة دستورية عابرة، بل هو تجلٍ سنوي لصياغة النسق العام للعقل السياسي المغربي، بوصفه خطابًا مركزيًا يُعيد ضبط إيقاع الدولة، ويوجّه البوصلة نحو المستقبل.
وفي ذكراه السادسة والعشرين، أطلّ جلالة الملك محمد السادس، بخطاب وُسم بالتكثيف، والجرأة الهادئة، والتوجيه التنموي العميق، في مشهد يجمع بين تقاطعات الذاكرة الوطنية، وتحديات اللحظة، وانتظارات الغد.

أولًا: تحوّل في طبيعة الخطاب من الشرعية إلى الفعالية

تميز الخطاب الملكي لعام 2025 عن سابقاته بانتقال لافت من خطاب التأسيس أو التأكيد على الشرعية التاريخية والدينية، إلى خطاب الفعالية والقياس.
فلم يُكتفِ جلالته بسرد المنجزات، بل أرفقها بأرقام واضحة، وبيانات رسمية (كنسبة الفقر متعدد الأبعاد 6.8% في 2024 مقابل 11.9% في 2014)، ما يعكس توجهًا جديدًا نحو دولة النتائج لا دولة النوايا.

في المقابل، إذا ما قورن الخطاب بخطاب سنة 2005 أو 2014 مثلًا، نلحظ تركيزًا آنذاك على البناء المؤسساتي والدعوة إلى إصلاحات بنيوية (الحكامة، الجهوية الموسعة، مدونة الأسرة…)، بينما أصبح خطاب 2025 ينهل من البراديغم التنموي الذي يربط بين الإنجاز والعدالة الترابية، وبين النمو والسيادة.

ثانيًا: العدالة المجالية كمحور فلسفي جديد في الخطاب الملكي

“لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسرعتين”، ليست مجرد جملة إنشائية، بل إعلان تحوّل استراتيجي في رؤية الدولة تجاه قضايا التنمية.
الخطاب الملكي جعل من العدالة المجالية ليس فقط ضرورة اقتصادية، بل أيضًا مسألة كرامة وطنية، وكأننا أمام تحول من “مغرب النخبة” إلى “مغرب الإنصاف”.

هذا الحضور القوي لمفهوم الإنصاف بين الجهات يُعيد إلى الأذهان ما جاء في خطاب العرش سنة 2017 عقب حراك الريف، حين شدد الملك على فشل النموذج التنموي القديم. لكن في 2025، لم يكتف الملك بالتشخيص، بل وجّه نحو أجرأة السياسات الترابية وفق خصوصيات كل جهة، داعيًا إلى مقاربات مائية، صحية، تعليمية واجتماعية محلية.

ثالثًا: التوازن الجيوسياسي واستعادة مفهوم الجوار المغاربي

عاد الملك ليؤكد موقفًا مغربيًا ثابتًا من العلاقة مع الجزائر، بلغة العقل والحكمة، بعيدًا عن منطق المزايدات، مشددًا على “فتح صفحة جديدة”.
في هذا السياق، يبرز الخطاب كتعبير عن نضج الجغرافيا السياسية المغربية، واستيعاب دقيق لمعادلات الإقليم، بما فيها موقع المغرب في جنوب المتوسط، وعلاقته بالقوى الصاعدة، واستثمار الدعم المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي.

كما أعاد التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، في انسجام مع خطاب العرش لسنة 2009، حين قال: “فلسطين قضية كل المغاربة”، ليؤكد في 2025 أن المغرب، رغم انخراطه في النظام الدولي الجديد، يظل وفيًّا للثوابت الأخلاقية والتاريخية لأمته.

خطاب بخصائص العقل الاستراتيجي

خطاب العرش لسنة 2025 ليس مجرد سرد لإنجازات، ولا هو فقط توجيه للسياسات العمومية؛ بل هو خطاب تحوّلي، يُكرّس الانتقال نحو دولة الإنصاف والمجال، دولة تُحاسِب على الأثر لا على الجهد.
في خطابه، بدا الملك محمد السادس أقرب إلى المهندس الاستراتيجي منه إلى رجل الدولة التقليدي: عقل يقيس، يُفعّل، يوازن، ويُحاور.

هذا الخطاب يؤسّس لمقاربة ملكية جديدة، تُزاوج بين السيادة التنموية، والتوازن الإقليمي، والإنصاف الاجتماعي، في أفق بناء “مغرب الممكن”، مغرب لا يُترك فيه أحدٌ على الهامش.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)