أخر الأخبار
الأربعاء. مايو 8th, 2024

نحو تجويد شامل للمدرسة العمومية: إشكالية سن التدريس

ديسمبر1,2023
benhania 655411471

عبد الله بن أهنية

Towards comprehensive improvement of the public school: the problem of the age of teaching

في ظل التوقف عن الدراسة بين الفينة والأخرى وما لذلك من تأثير على مردود التلاميذ والطلاب وتحصيلهم الدراسي، تتجه الأنظار في هذه الآونة الأخيرة إلى دعوة لمراجعة وتجويد شامل لمسار المدرسة العمومية في بلادنا وخاصة ما يتعلق بالمناهج وطرق التدريس في كل من التعليم الابتدائي والثانوي بشقيه، الاعدادي والثانوي. وبالإضافة إلى ذلك، يرى البعض أن الاهتمام يجب أن ينصب أيضاَ على تجويد القوانين المتعلقة بمهنة التعليم، وكذلك مراجعة مسألة الرواتب والمكافئات، وكذلك برامج إعداد وتدريب الأساتذة والمعلمين. ومن باب المنطق، فمن غير المعقول أن يبقى راتب المعلم والأستاذ والمربي قابعاَ أو يتزحزح بشكل بطيء في سلم الرواتب، بل ربما أدنى من الرواتب في مهن أخرى. فهل يمكن حفظ كرامة المعلم بمثل هذا؟ بل، أهكذا يجازى مربي الأجيال؟ وبالنظر إلى ما وصلت إليه أمم أخرى، نلاحظ بأن مهنة التربية والتعليم لا تعتبر مصدر رزق وعيش فقط، بل هي مصدر فخر واحترام وتقدير، ربما تفوق جل باقي المهن الأخرى. ومن حق تلك الأمم إذن أن تطالب بجودة عالية ومخرجات مدرسية يحسد عليها (أنظر إلى المعطيات المتعلقة بسنغافورة أو فنلندا على سبيل المثال لا الحصر). ولذلك تجد هذه الأخيرة قد رصدت أموالا طائلة لتشييد مدارس بجودة وهندسة معمارية جذابة، وفرضت على متخرجي مهنة التربية والتعليم أن يستوفوا شروط ولوج هذه المهنة والخضوع لتداريب جادة وصارمة وبمهنية في منتهى الدقة والجودة والشمولية. ومن ثم فقد اكتسبت مهنة التربية والتعليم احترام وتقدير المجتمع وبلغ بذلك المعلم المكانة المرموقة المشرفة التي أضحت طموحاَ لدى شريحة واسعة من تلك المجتمعات. وبالنطر إلى تلك المجتمعات نجد بأنها لم تحدد سن ولوج مهنة التدريس في الثلاثين ولا حتى الأربعين!!! فما السر وراء تحديد السن في الثلاثين لدينا؟ وهل اتخذ هذا القرار بناءا على دراسات تربوية دقيقة؟ وهل أخذنا في الاعتبار العدد المهول للمتخرجين من شعب شتى قد تتجاوز أعمارهم الثلاثين بأيام أو شهور قليلة؟ فما مصير أولئك إذن؟

أثار تحديد سن التدريس: 

كما سبق وأن أشير إليه، فقد شهد المغرب في الآونة الأخيرة تحولا كبيرا في سياساته التعليمية، خاصة فيما يتعلق بسن دخول الأفراد إلى مهنة التدريس. ومما لا شك فيه، فقد أثار هذا القرار، أي قرار تحديد سن الالتحاق بمهنة التدريس في ألا يتجاوز عمر المرشح أو المرشحة ثلاثين سنة نقاشات بين جميع شرائح المجتمع وكذلك المهتمين بقطاع التربية والتعليم وصناع القرار والسياسات والمعلمين في البلاد. غير أن العديد من تلك الفئات قد أعربت بطرق شتى عن استياءها لأنها تعتقد بأن هنالك مخاوف وآثارا سلبية لهذه القيود العمرية على مهنة التدريس، وبما أن الأمر كذلك، فلا بأس من أن نستمد رؤى من الأدبيات ذات الصلة، وبعض آراء علماء التربية والتعليم، ووجهات نظر مختلفة لكي نبين مدى تأثير هذا القرار على فئات من المجتمع.

الخبرة مقابل العمر:

 لقد ناقش علماء التربية والتعليم منذ فترة طويلة ما إذا كان العمر يرتبط بشكل مباشر بفعالية التدريس، وأبانوا عن آراء مختلفة. وهكذا فقد أشارت دراسة أجراها سميث وجونسون (2019) إلى أن الخبرة، وليس العمر، هي مؤشر أكثر موثوقية لقدرات المعلم. وبذلك قد يؤدي تقييد الدخول على أساس العمر إلى إغفال المعلمين المحتملين الذين اكتسبوا خبرة قيّمة في المجالات ذات الصلة. فهل من المعقول التخلي عن مجموعة من الأشخاص قد اكتسبوا خبرة إما في مدارس تكوين أو غيرها من الميادين وقرروا ولوج مهنة التعليم. كيف لا وقد تشبعوا بتجارب ومهرات اكتسبوها إما عن طريق المطالعة والممارسة، وإما علمتهم إياها الحياة بكل أطيافها وخباياها. 

التنوع في التدريس:

 أكد البحث الذي أجراه براون ومارتينيز (2020) على أهمية التنوع في مهنة التدريس. وحسب قوله، فقد يؤدي تقييد الالتحاق بمهنة التربية والتعليم على أساس العمر إلى الحد عن غير قصد من تنوع وجهات النظر والخبرات داخل القوى العاملة في التدريس، مما يعيق القدرة على تلبية الاحتياجات المتنوعة للطلاب. ومما لا شك فيه أن القدرات الذهنية والقدرة على الادراك أو الاستيعاب تختلف من شخص لآخر، كما أن القدرة على توصيل المعلومة تختلف من شخص لآخر، وبالتالي كما تختلف طرق الاستيعاب، تختلف طرق التلقين حسب شخصية المتلقي والمعلم نفسه.  وحسب رأي هذا الباحث، فإننا إن حددنا العمر الذي يمكن صاحبه من ولوج مهنة التربية والتعليم، فإننا بذلك سنكون قد حرمنا فئة كبيرة من التلاميذ والطلاب من تجارب ومشارب معرفية لدى شريحة واسعة من هواة ومحبي مهنة التربية والتعليم. 

الاتجاهات العالمية الحديثة: 

تشير الدراسات الدولية، مثل الدراسة الاستقصائية الدولية للتعليم والتعلم (TALIS) التي أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أن أنظمة التربية والتعليم الناجحة هي تلك التي بدون شك تعطي الأولوية لتوظيف مجموعة متنوعة من الأفراد ذوي الخبرات والخلفيات المختلفة وبأعمار مختلفة. فحسب هؤلاء الباحثين، قد يؤدي تحديد سن الالتحاق إلى قوة تعليمية من طرف فئة عمرية محددة وأكثر تجانسًا من غيرها، إلى عواقب وخيمة مما قد يحد من قضية الابتكار والقدرة على التكيف في مواجهة التحديات التعليمية المتطورة والمختلفة في آن واحد.

ومن خلال المناقشات مع المعلمين والمربين في هذا الميدان، فلا نستغرب حين نجد الكثيرون منهم قد أعربوا عن مخاوفهم بشأن القيود العمرية المفروضة على المعلمين المحتملين.  كما يقول البعض، “ليس من العدل استبعاد الأفراد الذين ربما طوروا مهارات أساسية في مهن أخرى وجلبوا منظورًا جديدًا إلى الفصل الدراسي”. ويرى في ذلك آخرون إحباطا فعليا: “من خلال تحديد سن الالتحاق، فإنهم يغلقون الباب أمام الأفراد المتحمسين الذين يريدون حقاً المساهمة في التعليم. وهذا محبط للشباب”. 

الآثار السلبية للقيود العمرية:

يرى العديد من المفكرين والمهتمين بميدان التربية والتعليم بأن حصر ولوج هذه المهنة في فئة محددة من الشباب دون آخرين قد يؤدي إلى نتائج قد لا ترضي الكثيرين ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  1. انخفاض الابتكار: يرى بعض الباحثين على أن تحديد سن الالتحاق بمهنة التربية والتعليم قد يؤدي إلى نقص الابتكار في طرق التدريس. غالبًا ما يجلب المعلمون من مختلف الفئات العمرية أفكارًا جديدة ومختلفة أيضا ويشجعون طلابهم حتى يكونوا أكثر استعدادًا للتجربة، مما يعزز البيئة التعليمية ويجعلها أكثر ديناميكية وجذابة.
  2. فقدان الأفراد المؤهلين: قد يتم تثبيط المهنيين ذوي الخبرة من المجالات الأخرى الذين يرغبون في الانتقال إلى التدريس بسبب القيود العمرية المفروضة. وقد يؤدي ذلك إلى فقدان الخبرات القيمة التي لا تقدر تجربتها وقدراتها الفكرية وخبرتها بثمن، والتي يمكن أن تعزز جودة التعليم وترفع من قدرات المتعلمين وترفع من مكانة المدرسة العمومية ومخرجاتها.
  3. أزمة البطالة: يرى الكثيرون من المتتبعين أن فرض حد سن الثلاثين لولوج مهنة التربية والعليم يؤدي، وبدون شك، إلى تفاقم أزمة البطالة بين الشباب. ومع محدودية فرص العمل، قد يواجه المعلمون الطموحون الذين يتجاوزون الحد العمري صعوبات في العثور على عمل، مما يساهم في قضية البطالة بين الشباب على نطاق أوسع، علماَ أن هذا الميدان كان دوما يشكل طوق نجاة ومصدر كسب القوت للكثير من الأسر. ماذا سيفعل شاب بلغ الواحد وثلاثين أو حتى الأربعين وهو مؤهل وقادر أن يدرس ولكن القانون الوضعي أغلق الأبواب في وجهه! من أين سيعول ويساعد أبويه وإخوانه، وكيف سيبني أسرة؟ كيف لا يحس بالإحباط والافلاس منذ البداية؟!!!

توصيات مقترحة ومفيدة:

كثير ما نسمع أن المرء أو حتى الأمم تستفيد من أخطائها. ومن هذا المنطلق، لا بأس من أن نعيد النظر في أولويات الإصلاح الخاصة بالمدرسة العمومية ومحاولة النهوض بها كي ترقى إلى متطلعات الأسر وتنتج لنا عقولاَ مفكرة وأفراداَ مؤهلين وقادرين على تحمل المسؤولية في بيئة صحيحة من كل الأسقام وسليمة من كل أشكال العنف والعش والفساد والجريمة. نتمنى من كل أعماقنا أن نخطو خطوات سليمة وصحيحة من أجل اصلاح جيد وبناء لمنظومة التربية والعليم، ونقترح ما يلي: 

  • إعادة تقييم معايير العمر:

 يجب إعادة النظر في معايير السن لدخول مهنة التدريس، مع التركيز على المؤهلات والخبرة بدلاً من الحدود العمرية التي قد تفوت الفرصة على الكثير من الشباب وتؤدي إلى تضخم معدل البطالة.

  • نهج مسارات الدخول المرنة:

 تقديم مسارات دخول مرنة تعترف بالتجارب المتنوعة وتقدرها، وتنهج التشبع بالعلم والمعرفة من كل مشاربها. يمكن أن يشمل ذلك تقييم المرشحين بناءً على المهارات والمؤهلات ذات الصلة والشغف الواضح بالتعليم.

  • برامج التطوير المهني والتدريب الموازي: 

محاولة تنفيذ برامج التطوير المهني والتكوين الشاملة، وبإشراف جدي محكم ومعايير الجودة المعترف عليها، للمعلمين من جميع الأعمار لضمان التعلم المستمر والتكيف مع الاتجاهات التعليمية المتطورة. كما يجب الحرص على برامج وورشات التدريب المصاحب أو الموازي لضمان استمرار الجودة ومواكبة العصر، مع احترام تكافئ الفرص ومكافئة وتشجيع المنخرطين والمتميزين.

  • تشجيع برامج الإرشاد: 

إنشاء برامج إرشادية تسهل تبادل المعرفة والمهارات بين المعلمين ذوي الخبرة والمبتدئين، مما يعزز مجتمع التدريس الداعم. كما يجب خلق نوادي افتراضية وفضاءات للقراءة والنقد الأدبي كي نربي في الأجيال الصاعدة حب القراءة والانغماس في الأدب والفنون بجميع أطيافها الهادفة.

  • تعزيز التنوع الفكري والأدبي: 

العمل بنشاط على تعزيز السياسات التي تشجع التنوع في مهنة التدريس، مع الاعتراف بقيمة العلوم الدينية والإنسانية وفضلها في تهذيب الفرد وسقل مهاراته وبناء شخصيته وتربيته على مكارم الأخلاق والتسابق في فعل الخير والإحسان. كما يجب التشجيع على احترام اختلاف وجهات النظر والخلفيات المتنوعة في حدود المعقول ودون المس بمبادئ الأمة وثوابتها، وذلك من أجل إنشاء نظام تعليمي قوي وجذاب.

  • معالجة البطالة بشكل كلي: 

من أجل مكافحة البطالة بين الشباب، يجب على صناع السياسات والقرارات اعتماد نهج شامل يتضمن خلق المزيد من فرص العمل في ميادين مختلفة، وتعزيز برامج التدريب المهني والتدريب المصاحب أو الموازي، ودعم مبادرات ريادة الأعمال، وفتح مجالات واسعة في مجال التربية والتعليم وكذلك في مجال الصحة لاستقطاب شرائح واسعة من الشباب والتخفيف من حدة ظاهرة البطالة في المجتمع.

خلاصة:

وفي الختام، فإن تحديد سن الالتحاق بمهنة التدريس في المغرب في ألا يتجاوز عمر المرشح أو المرشحة ثلاثين سنة يشكل تحديات كبيرة وعواقب سلبية. وبالاستناد إلى رؤى علماء التربية والتعليم، وآراء بعض ممن يهمهم هذا الميدان، والأدبيات الدولية، فمن الواضح أن مثل هذه القيود يمكن أن تعيق الابتكار، وتؤدي إلى فقدان الأفراد المؤهلين وتفويت فرصة الاستفادة من خبرات من تجاوزت أعمارهم الثلاثين. وبدون شك فإن تحديد سن الالتحاق بمهنة التدريس قد تساهم في قضية تفشي البطالة الأوسع بين الشباب والدفع بهم إلى العزوف عن الزواج نظراَ لظروفهم المادية. إن مشروع اصلاح منظومة التربية والتعليم منوط بإعطاء الأولوية لنهج أكثر شمولا ومرونة مع ادماج أكبر عدد من المرشحين الشغوفين بولوج مهنة التربية والتعليم، وذلك من أجل تكافئ اجتماعي مثمر ومن أجل اعداد فرد صالح ومؤهل، مع الحث على اعداد بيئة مدرسية جذابة وسليمة تحترم جميع معايير الجودة والسلامة وتعيد للمعلم مكانته المرموقة في المجتمع.،،،

والله ولي التوفيق،،،

 

*كاتب وباحث في مجال الشؤون التربوية والثقافية

أحد مؤسسي منصة    3B Golden Gate    لتعليم اللغة الإنجليزية عن بعد

https://www.3b2gelearning.net

اقرأ المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *