أزمة القيم في العمل الجمعوي: عندما تتحول الجمعيات إلى مساحات للصراع بدلًا من ميادين للعطاء

حكيم السعودي

العمل الجمعوي في جوهره هو تجسيد للقيم الإنسانية النبيلة حيث يتطوع الأفراد بوقتهم وجهدهم من أجل خدمة المجتمع وتحقيق التنمية المستدامة. غير أن هذا العمل الذي يفترض أن يكون قائمًا على النزاهة والإخلاص لم يسلم من بعض الممارسات السلبية التي تعرقل مسيرته وتحوّله أحيانًا إلى ساحة للصراعات الشخصية والمصالح الذاتية. في العديد من الجمعيات نجد أفرادًا يرفعون شعارات رنانة حول الشفافية، التضامن والعمل من أجل الصالح العام لكن الواقع يعكس صورة مغايرة تمامًا. فكثيرًا ما تتحول الجمعيات إلى فضاءات للمصالح الشخصية حيث يسعى بعض الأفراد إلى تسويق أنفسهم اجتماعيًا وسياسيًا، دون أدنى التزام حقيقي بالمبادئ التي ينادون بها. يرفعون شعارات نبيلة لكنهم في الممارسة يمارسون الاستغلال، الإقصاء والنفاق غير واعين بأن كل فعل – مهما كان حجمه – محسوب عليهم في ميزان القيم والأخلاق.من المفترض أن تكون الجمعيات فضاءات للعمل المشترك والتعاون لكن في كثير من الأحيان تتحول إلى ساحات للصراعات الداخلية حيث تتجذر المنافسة غير الشريفة بين الأعضاء. يسعى بعض الأفراد إلى عرقلة أي تقدم داخل الجمعية، فقط لأنهم لا يريدون أن يتقدم الآخرون ويعملون على وضع العقبات أمام أي محاولة للإصلاح أو التطوير. بعضهم يرى في الجمعية ملكية شخصية يجب الدفاع عنها بكل الطرق حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة.

 

هذا الصراع يؤدي إلى تفكيك الجمعية وإضعاف فاعليتها وتحويلها إلى ساحة لخدمة المصالح الضيقة بدلًا من خدمة المجتمع. فبدل أن يكون هناك سعي مشترك لتحقيق أهداف الجمعية، ينشغل بعض الأفراد بتصفية الحسابات مما يضر بسمعة العمل الجمعوي ككل.إن واحدة من أكبر الإشكاليات التي يعاني منها العمل الجمعوي هي غياب الفلسفة الجمعوية الإنسانية أي غياب الوعي بأن العمل داخل الجمعيات يجب أن يكون قائمًا على قيم التعاون التضامن، والمسؤولية الاجتماعية. الفلسفة الجمعوية الحقيقية تعني أن العمل التطوعي ليس وسيلة لتحقيق المنافع الشخصية بل هو التزام أخلاقي ومجتمعي تجاه الآخرين.عندما تغيب هذه الفلسفة يصبح العمل الجمعوي وسيلة لتحقيق المصالح ويبدأ بعض الأفراد في استغلال الأعضاء وتوظيف الإغراءات لكسب الولاءات، بل وحتى ممارسات غير أخلاقية لضمان استمرار نفوذهم داخل الجمعية. هذه السلوكيات لا تؤدي فقط إلى فقدان الثقة في الجمعيات بل تساهم أيضًا في تآكل مفهوم العمل التطوعي داخل المجتمع.

في بعض الحالات، يلجأ بعض القائمين على الجمعيات إلى خطاب شعبوي يستغل مشاعر الأفراد، ويعدهم بتحقيق أمور عظيمة، لكنه يبقى مجرد كلام بلا أفعال. هذا النوع من الخطاب يستغل حاجات الأفراد، لكنه في النهاية لا يقدم أي حلول حقيقية، بل يخلق حالة من الإحباط عندما يكتشف الناس أنهم كانوا ضحايا أوهام وممارسات زائفة.

 

هذا النفاق الجمعوي يقتل روح العمل التطوعي حيث يصبح الناس أكثر تشككًا في أي مبادرة جمعوية، ويفقدون ثقتهم في الجمعيات كوسيلة لتحقيق التغيير الإيجابي. فالوعود التي لا تتحقق، والبرامج التي يتم الترويج لها دون تنفيذ، كلها أمور تؤدي إلى فقدان المصداقية وهو ما ينعكس سلبًا على أي محاولة جادة للإصلاح.لمواجهة هذه الظواهر السلبية لابد من إصلاح حقيقي يعيد العمل الجمعوي إلى مساره الصحيح. وهذا يتطلب:

1.تعزيز قيم النزاهة والشفافية داخل الجمعيات، من خلال وضع آليات واضحة للمساءلة والمحاسبة.

2.تبني الفلسفة الجمعوية الإنسانية، والتي تضع مصلحة المجتمع فوق أي اعتبارات شخصية.

3.محاربة الاستغلال والنفاق الجمعوي، من خلال توعية الأعضاء بأهمية العمل التطوعي الحقيقي، وكشف الممارسات غير الأخلاقية التي تضر بالجمعيات.

4.خلق بيئة تنافسية شريفة داخل الجمعيات، حيث يتم التركيز على تطوير المشاريع والبرامج بدلًا من الصراعات الشخصية على المناصب.

5.توعية المجتمع بأهمية التحقق من مصداقية الجمعيات حتى لا يقع ضحية للوعود الكاذبة والخطاب الشعبوي.

 

هل نعيد النظر في مفهوم العمل الجمعوي؟ لقد أصبح من الضروري إعادة التفكير في العمل الجمعوي ليس فقط كفضاء تطوعي بل كمسؤولية أخلاقية تتطلب النزاهة والالتزام الحقيقي بخدمة المجتمع. فالعمل الجمعوي ليس مجرد وسيلة لتحقيق المصالح الشخصية أو اكتساب النفوذ، بل هو التزام طويل الأمد يتطلب الإخلاص والتفاني.على الأفراد الذين يتولون مسؤوليات داخل الجمعيات أن يدركوا أن كل قرار يتخذونه وكل ممارسة يقومون بها ستنعكس عليهم عاجلًا أم آجلًا فكما قال الله تعالى: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”.إن كان هناك أمل في إصلاح العمل الجمعوي فهو في عودة الوعي بأهمية الصدق، النزاهة والإخلاص. فهل نحن مستعدون لإحداث هذا التغيير؟

بعد استعراض أبرز الإشكالات التي تعاني منها الجمعيات من نفاق جمعوي واستغلال وصراعات داخلية وغياب للفلسفة الإنسانية في العمل التطوعي لا بد من البحث عن حلول حقيقية تعيد للمجتمع ثقته في العمل الجمعوي وتحوله إلى قوة فاعلة للتغيير. فهل يمكننا إعادة بناء هذا النموذج الجمعوي بطريقة تضمن تحقيق الأهداف النبيلة التي أنشئت الجمعيات من أجلها؟

1.التربية على القيم داخل الجمعيات،لا يمكن إصلاح العمل الجمعوي دون ترسيخ ثقافة القيم داخل الجمعيات نفسها. يجب أن يكون الانخراط في الجمعيات مرتبطًا بتكوين أخلاقي وفكري يجعل الأعضاء يدركون أن العمل الجمعوي ليس مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية بل هو مسؤولية تجاه المجتمع. و يجب أن تخضع الجمعيات لبرامج تدريبية في الأخلاقيات الجمعوية، الشفافية والتدبير الديمقراطي.كما ينبغي على الجمعيات أن تعزز قيم التعاون بدل التنافس السلبي والقيادة الخادمة بدل القيادة المتسلطة.

 

التربية على العمل الجمعوي تبدأ من سن مبكرة من خلال دمج القيم التطوعية في المناهج التربوية لتنشئة جيل جديد يحمل رؤية سليمة تجاه العمل التطوعي.

2.الحوكمة الجيدة والمساءلة داخل الجمعيات:غياب الحوكمة الجيدة هو أحد الأسباب الرئيسية لانحراف الجمعيات عن أهدافها. يجب على الجمعيات أن تتبنى:

الشفافية المالية: من خلال نشر التقارير المالية بانتظام وإخضاعها للمراقبة.

آليات ديمقراطية في اتخاذ القرار: بدل أن تكون الجمعيات رهينة بيد شخص واحد أو مجموعة ضيقة يجب أن تكون هناك مشاركة واسعة في اتخاذ القرارات.

التقييم المستمر للأداء: من خلال وضع معايير لقياس مدى تحقيق الأهداف وضمان أن الجمعية لا تتحول إلى مجرد هيكل بلا فعالية.

3.تجديد الخطاب الجمعوي وإبعاده عن الشعبوية:الخطاب الشعبوي الذي يبيع الأوهام للناس هو أحد أهم الأسباب التي جعلت الكثيرين يفقدون الثقة في الجمعيات. يجب أن يكون الخطاب الجمعوي واقعيًا ومرتبطًا بأهداف قابلة للتحقيق، بدل تقديم وعود كاذبة،مبنيًا على المهنية والمعرفة حتى تكون المشاريع والبرامج ذات أثر حقيقي، منفتحًا على النقاش والتقييم بحيث يكون العمل الجمعوي خاضعًا للمساءلة من طرف أعضائه ومن طرف المجتمع.

4.تعزيز التعاون بين الجمعيات بدل الصراع بينها،بدل أن تتصارع الجمعيات فيما بينها يجب أن يكون هناك تعاون وتكامل لأن الهدف المشترك للجمعيات هو خدمة المجتمع. يمكن تحقيق ذلك من خلال:

خلق شبكات للتنسيق بين الجمعيات العاملة في نفس المجال لتبادل التجارب وتفادي ازدواجية الجهود.

وضع مواثيق شرف تلزم الجمعيات بالعمل المشترك واحترام الأخلاقيات الجمعوية.

تشجيع مشاريع تشاركية بين الجمعيات حيث يتم تنفيذ برامج مشتركة تعزز روح التضامن بدل التنافس غير الشريف.

أي مستقبل للعمل الجمعوي؟

إن العمل الجمعوي في حاجة إلى إعادة بناء على أسس جديدة تضع القيم، النزاهة والشفافية في صلب الممارسة الجمعوية. فبدون هذه الأسس سيظل العمل الجمعوي رهين المصالح الشخصية والصراعات الضيقة مما يؤدي إلى فقدان المجتمع ثقته فيه.

إن التغيير لن يأتي من الخارج بل يجب أن يبدأ من داخل الجمعيات نفسها عبر أفراد يؤمنون حقًا برسالة العمل الجمعوي ويسعون إلى إحداث فرق حقيقي في المجتمع. فهل نحن مستعدون لهذا التحول؟ وهل يمكن أن نرى مستقبلًا يكون فيه العمل الجمعوي قوة فاعلة بدل أن يكون مجرد ساحة للصراعات والاستغلال؟ إن الجواب يكمن في أفعالنا، وليس في أقوالنا.

 

إن مستقبل العمل الجمعوي مرهون بمدى قدرتنا على استعادة القيم الحقيقية التي بُني عليها مثل النزاهة، الشفافية والتعاون الصادق. فلا يمكن للجمعيات أن تحقق أهدافها النبيلة إذا ظلت غارقة في صراعات المصالح والممارسات الانتهازية والخطابات الشعبوية التي تضلل المنخرطين والمجتمع. العمل الجمعوي ليس مجالًا لتحقيق المكاسب الشخصية أو تصفية الحسابات بل هو مسؤولية وأمانة تتطلب أشخاصًا نزهاء يؤمنون بالتغيير ويعملون بجد لتحقيقه. إذا لم نتمكن من إصلاح واقع الجمعيات من الداخل، فإنها ستفقد مصداقيتها أكثر وسينفر منها المجتمع وسنخسر أداة مهمة للتنمية والتغيير الاجتماعي.لذلك حان الوقت لإعادة النظر في الممارسات السائدة ووضع معايير واضحة للمساءلة وتشجيع الوعي الجمعوي القائم على العمل الصادق والالتزام الحقيقي. التغيير يبدأ من الأفراد من داخل كل جمعية ومن داخل كل ضمير مسؤول يؤمن بأن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)