مع الحدث فاطمة الحراق
في السنوات الأخيرة أصبحت مشاهد الأشخاص في وضعية اضطراب نفسي حاد داخل الشوارع المغربية جزءاً من الحياة اليومية حيث لا تكاد تخلو ساحة عمومية أو ممر مكتظ من أفراد يعيشون حالة اضطراب نفسي ظاهر، دون علاج أو مرافقة طبية أو اجتماعية إن حضورهم في الفضاء العام لا يثير فقط الأسئلة الأخلاقية المرتبطة بالكرامة الإنسانية بل يطرح أيضاً إشكالاً صحياً واجتماعياً وأمنياً في آن واحد. فهؤلاء الأشخاص في الأصل مرضى في أمسّ الحاجة إلى الرعاية، غير أن غياب بنية علاجية مناسبة، وافتقار البلاد إلى سياسة وقائية واستباقية متكاملة، يجعلهم في وضع هشاشة مضاعفة.
الملاحظ أن الظاهرة تتغذى من عوامل متشابكة، تتقاطع بين الهشاشة الاقتصادية وتآكل الروابط الأسرية وتراجع شبكات الدعم الاجتماعي، إلى جانب ندرة الأطباء النفسيين وارتفاع تكلفة الأدوية وقلتها في المستشفيات العمومية وهو ما يدفع كثيراً من المرضى إلى الانقطاع عن العلاج والتحول تدريجياً إلى العيش في الشارع. هناك، يتحول الفضاء العام إلى ما يشبه مستشفى مفتوحاً بلا أسرة ولا أطباء، حيث تُترك الحالات لمصيرها في غياب أي رعاية مهنية
الوضع الحالي يكشف بوضوح عن خصاص مهول في مؤسسات الاستشفاء النفسي العمومي وعن غياب إطار قانوني يسمح بالتدخل الإجباري في الحالات التي تشكل خطراً على المريض أو على الغير. كما يبرز ضعف التنسيق بين قطاعات الصحة والداخلية والشؤون الاجتماعية الأمر الذي يضاعف شعور المارة بعدم الأمان أمام سلوكات قد تكون غير متوقعة، خاصة لدى الفئات الهشة كالنساء والأطفال
من الناحية النظرية يمكن تفسير هذه الظاهرة في ضوء مقاربة الوصم الاجتماعي للمرض النفسي حيث يؤدي ضعف الوعي الجماعي إلى دفع المرضى خارج محيط الأسرة والمؤسسة الصحية نحو الشارع. كما يمكن قراءتها في إطار أزمة الثقة بالمؤسسات وضعف السياسات العمومية الموجهة للصحة النفسية. غير أن أي استنتاج يبقى ناقصاً في ظل غياب معطيات إحصائية دقيقة حول عدد المرضى المتواجدين في الشارع، طبيعة أمراضهم وظروف خروجهم من مسارات العلاج. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن المغرب يعاني من خصاص مهول في الأطباء النفسيين، إذ لا يتجاوز المعدل طبيباً واحداً لكل مئة ألف نسمة في بعض المناطق، وهو رقم بعيد عن الحد الأدنى الموصى به دولياً.
أمام هذا الواقع تصبح وزارة الصحة مطالبة بإدراج ملف الصحة النفسية في الفضاء العام ضمن أولوياتها، من خلال وضع استراتيجية وطنية شمولية ترتكز على التشخيص المبكر للاضطرابات، وتوفير مراكز علاجية متخصصة، وتكوين كفاءات مهنية كافية، إلى جانب سن إطار قانوني واضح يسمح بالتدخل عند وجود خطر فعلي على المريض أو على الغير. كما ينبغي إدماج برامج للتوعية بالصحة النفسية في المدارس والجامعات وأماكن العمل، بما يسهم في الوقاية المبكرة وتقليص الوصم الاجتماعي
المجتمع المدني بدوره مدعو إلى الانخراط في جهود الترافع والتوعية وتقديم الدعم للأسر فيما يجب على الإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في كسر الصور النمطية التي تربط المرض النفسي بالعنف أو الجنون وأن يساهم في نشر ثقافة تربط بين الصحة النفسية والكرامة الإنسانية. كما أن معالجة الظاهرة لا تنفصل عن بعدها الاقتصادي، إذ إن غياب التكفل يؤدي أيضاً إلى تكلفة غير مباشرة على الدولة سواء من خلال الضغط على المستشفيات أو من خلال الحوادث التي قد تترتب عن اضطرابات غير معالجة.
إن استمرار الظاهرة دون تدخل مؤسساتي واضح لا يعد فقط قصوراً في السياسة الصحية بل يمثل مؤشراً على عجز جماعي عن حماية الفئات الأكثر هشاشة وضمان حقها في العلاج والعيش بكرامة. فالصحة النفسية ليست مجرد شأن فردي بل هي قضية مجتمع وأمن جماعي وضمانها هو شرط لبناء مجتمع متوازن وآمن، حيث تُصان كرامة الفرد وتُحمى الجماعة في آن واحد.
تعليقات ( 0 )