ليست الكلمات في جوهرها سوى جروح صوتيةٍ تُصيب المعنى فتترك فيه أثراً لا يُمحى، غير أن بعض الكلمات، مثل “كنبغيك” و“I love you”، تُحدث في النفس المغربية ما يشبه الزلزال الصامت، إذ تنتمي الأولى إلى الذاكرة الجماعية، والثانية إلى الغزو الرمزي للعولمة. كلتاهما تُعبّران عن الحب، لكنهما لا تخرجان من الجذر ذاته، ولا تسكنان الإحساس نفسه، بل تكشفان عن اختلافٍ في الكيفية التي يتنفس بها المغربي عاطفته، ويتصالح بها مع هشاشته، أو يخفيها خلف صمته.
في المجتمع المغربي، كلمة “كنبغيك” ليست مجرد لفظة حب، بل هي حدث لغوي يوقظ في المتكلم والمخاطَب شعورًا بالدفء والارتباك في آن واحد. إنها تُقال نادرًا، كأنها تخرج من حنجرةٍ تخاف أن تُدان بالضعف، أو أن تُتهم بالرقة الزائدة في مجتمعٍ يربط الرجولة بالتحفّظ، والأنوثة بالكتمان. “كنبغيك” كلمة تُقال بالعين أكثر مما تُقال بالفم، وحين تخرج، تخرج كاعترافٍ مهزوز، كدمعةٍ معلقة على حافة الشفة. فيها بقايا من الحياء البدوي، ومن الحذر الحضري، ومن ذلك الصمت الذي ربّى المغاربة على أن الحب لا يُعلن بل يُلمّح إليه.
أما “I love you”، فهي كلمة هجينة في السياق المغربي. تنتمي إلى لغةٍ لا تعرف الخوف من الإفصاح، ولا ترى في العاطفة عيبًا، بل طقسًا يوميًا للتعبير عن الذات. لهذا، حين يتلفظ المغربي بـ“I love you”، فهو لا يتحدث بلغته الأم، بل يتقمص هوية عاطفية مستوردة، فيها قدر من الحرية والتمرد، لكن أيضًا قدر من الاصطناع. إن نطقها في الشارع المغربي أشبه بتجربةٍ جسدية أكثر منها لغوية، لأنها تنقل المتكلم من دائرة الممنوع إلى دائرة “الممكن الخجول”. فهي كلمة تحررية من الخارج، لكنها غريبة من الداخل، تلامس ولا تُلامس، تقول ولا تُصدق.
الفارق بين “كنبغيك” و“I love you” ليس في الترجمة، بل في الإحساس بالزمن الذي تسكنه كل واحدة منهما. “كنبغيك” تنتمي إلى زمن الحنين، إلى ذاكرة البيوت القديمة، إلى النظرات المخبأة خلف الشبابيك، إلى رسائل مكتوبة بخطٍّ مرتجف تُطوى تحت الوسادة. أما “I love you”، فتنتمي إلى زمن السرعة، إلى الرسائل الفورية، إلى العواطف المؤقتة التي تُستهلك بسرعة الصور وتُنسى بسرعة الإشعارات. لذلك، فحين يقول المغربي “I love you”، يكون في الغالب يهرب من عمق “كنبغيك”، لأنها تُلزمه بالصدق، بالثبات، بالجرح. أما “I love you”، فهي تمنحه مساحة للهروب، للتجريب، للقول دون أن يُحاسَب.
من منظورٍ سوسيولوجي، يمكن القول إن “كنبغيك” تُعبّر عن الهوية العاطفية للمجتمع المغربي، حيث يتعايش الحب مع الحياء، والرغبة مع الخوف، والتعبير مع الرقابة. إنها كلمة تنتمي إلى ثقافة الغموض العاطفي، حيث لا يُقال الشيء صراحةً، بل يُلمَّح إليه، في لغةٍ مشبعة بالرمز والاستحياء. في المقابل، “I love you” تمثل نموذجًا من التحديث اللغوي-الوجداني الذي جلبته وسائل التواصل الاجتماعي، إذ سمحت للجيل الجديد أن يتكلم الحب دون أن يشعر بالخزي أو بالثقل التاريخي الذي تحمله كلمة “كنبغيك”.
من الناحية النفسية، يمكن قراءة هذه المفارقة كصراعٍ بين الهوية الأصلية والهوية المُمسرحة. فالمغربي حين يقول “كنبغيك”، فإنه يعيش اللحظة بكل صدقها، يضع قلبه في يد الكلمة. أما حين يقول “I love you”، فهو يضع الكلمة في يد الصورة. الأولى تخرج من باطن الوجدان، والثانية تخرج من سطح الثقافة. ولهذا فإن وقع “كنبغيك” في الأذن المغربية لا يزال أقوى، لأنها تحمل معها طعم الأرض، ورائحة الحنين، وارتباك القلب حين يصدق.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الجيل الجديد بدأ يجد في “I love you” مساحة نفسية أكثر أمانًا، لأنها لا تُلزمه بالتقليد، ولا تضعه تحت ضغط الأعراف. إنها تمنحه إمكانية التعبير دون انكشافٍ كامل، كأنها قناع جميل يخفي ارتباك الهوية. لكن هذا القناع نفسه يُسهم في خلق تبلّد عاطفي، حيث تُختزل المشاعر في كلماتٍ خفيفة لا تنزف، في حين أن “كنبغيك” تنزف حتى وهي تُقال بابتسامة.
يبدو إذن أن العلاقة بين الكلمتين ليست لغوية فحسب، بل وجودية. فـ“كنبغيك” تشبه جذور شجرةٍ ضاربة في الأرض، لا تُثمر إلا في صمت، بينما “I love you” تشبه زهرةً صناعية تُعجب العين لكنها لا تفوح. المغاربة يعيشون اليوم بين هاتين الحقيقتين: بين الوفاء للأصل والانجراف نحو السطح، بين دفء العاطفة وبرد التعبير. وكأن القلب المغربي، في زمن العولمة، بات يتكلم بلغتين: واحدة تحفظه من الذوبان، وأخرى تُنسيه من يكون
وفي النهاية، حين يقول المغربي “كنبغيك”، فهو لا يقولها فقط لمن يحب، بل يقولها أيضًا لذاته المفقودة، لتاريخه، لقدرته على الإحساس. أما حين يقول “I love you”، فهو يحاول أن يكون جزءًا من عالمٍ لا يتكلم بلغته، لكنه يُغريه بحداثةٍ عاطفيةٍ بلا جذور.
وفي تلك المسافة بين الكلمتين، بين “كنبغيك” و“I love you”، يقف المغربي حائرًا بين ذاكرةٍ تجرّه إلى الداخل، وثقافةٍ تدفعه إلى الخارج.
وهناك بالضبط، في ذلك الشقّ العاطفي الذي لا يُلتئم، تتجلى دراما
الهوية المغربية الحديثة.
في النهاية، حين نصغي جيدًا إلى الكلمتين — “كنبغيك” و“I love you” — نكتشف أننا لا نستمع إلى لغتين، بل إلى قلبين مختلفين في درجة الصدق والوجع. “كنبغيك” تنتمي إلى ذاك الصوت الداخلي الذي لا يتكلم إلا حين يختنق، إلى الارتجاف الأول ليدٍ تلامس يدًا في الخفاء، إلى دفءٍ قديم يسكن الذاكرة ولا يُنسى. أما “I love you”، فهي ابنة الضوء السريع، ابنة العالم الذي لا يعرف الانتظار، تُقال كما تُرسل صورة، تُحب كما يُضغط على “إعجاب”.
المغربي اليوم، وهو يعيش بين الكلمتين، يشبه كائنًا عالقًا بين جغرافيتين عاطفيتين: إحداهما تحنّ إلى الأصالة، والأخرى تغريه بالحداثة. بين “كنبغيك” التي تُوجعه بصدقها، و“I love you” التي تُريحه بزيفها، يتأرجح كيانه كمن يبحث عن لغةٍ ثالثة، لغةٍ تستطيع أن تقول الحب دون أن تخاف منه، وأن تحفظ الصدق دون أن تُدفنه تحت رماد التقاليد.
ربما ما نحتاجه اليوم ليس أن نختار بين “كنبغيك” و“I love you”، بل أن نستعيد قدرة القلب على الإحساس قبل الترجمة، أن نعود إلى تلك اللحظة البدائية حيث الكلمة لم تكن بعدُ مفهوماً لغويًا بل رعشةً وجودية، أن نقولها كما لو كنا نخلق العالم من جديد.
وحين يحدث ذلك، حين يقول المغربي “كنبغيك” دون خوف، وحين يشعر أن “I love you” ليست استعارة بل امتدادٌ لصدقٍ داخلي، حينها فقط سيصالح لغته مع قلبه، وسيفهم أن الحب ليس ما يُقال، بل ما يترك فينا أثراً لا يزول، مهما تغيّرت اللغة.


Comments
0