محمد كلوين: رجل من زمن الحكايات الكبرى
مع الحدث حكيم السعودي
في مسيرة الحياة، هناك أشخاص يمرّون كأطياف، وهناك من يبقون علامات فارقة، كالأوتاد التي تثبت الخيمة في مواجهة الرياح العاتية. محمد كلوين، ذلك الاسم الذي لطالما تردد في أروقة دار الشباب بسيدي معروف، كان ذات يوم مجرد اسم في قائمة المنخرطين والأعضاء. لم تكن تربطني به علاقة شخصية في البداية، فقط وجه عابر بين الحشود، واسم محفوظ بين الأذهان.
لكنه كان دومًا يحمل ذلك البريق الذي يميز أولئك الذين يُخلقون ليكونوا شيئًا أعظم.لقد تعرفت عليه عن قرب خلال اللقاءات والاجتماعات، وبدأت أراه في المشاريع التي كان يقودها بعزم وحكمة، خصوصًا في عالم السمعي البصري، ذلك الفن الذي برع فيه بلمسة خاصة تنبض بالحياة.
زادت معرفتي به في الائتلاف المغربي لمجالس دور الشباب بالمغرب، حيث كان حضوره أشبه بنجم يضيء اللقاءات، يقود الحوار برزانة ويفتح الأبواب لتفاهمات جديدة. كان رئيسًا، ولكن ليس ككل الرؤساء؛ كان قائدًا بالفطرة، رجلًا يحمل همّ الأطفال والشباب والمتسولين والمحرومين كأنه يحمل روحه نفسها.
و مع مرور الوقت، أدركت أن محمد كلوين ليس مجرد شخصية عابرة.
كرئيس للجامعة الوطنية للتخييم وكمنتخب عن مقاطعة الفداء، كان يجوب البلاد كرياح التغيير، ينشر طموحه وأهدافه الجمعية في كل مكان.
ما كان يثير إعجابي أكثر هو تواضعه الشديد، ذلك الجانب الإنساني الذي يظهر جليًا عندما يقرأ ما أكتبه وينشره ليعود بكلمات تحفيزية، يزرع بها بذور الأمل في روحي.
أي رجل هذا الذي يتسع قلبه لقراءة الجميع، ومتابعة الجميع، وإلهام الجميع؟
لم يكن محمد كلوين مجرد إداري أو مسؤول. كان تطبيقًا حيًا للفلسفة في أسمى معانيها.
في قيادته للجامعة الوطنية للتخييم، وجدت انعكاسًا لأفكار ماكيافيلي في الحنكة والتدبير، ومزيجًا من رؤى روسو وفولتير في العدالة والحرية، بل وحتى ظل سقراط وأفلاطون في مدينتهم الفاضلة.
كلوين هو تجسيد لرجل يعشق الطفولة حد العبادة، ويرى في الشباب أفق المستقبل الذي لا ينتهي.
و من النادر أن نجد رجلًا ينسجم بين المنصب والرسالة، بين السلطة والروح.
كلوين كان استثناءً، يقف أمام الكاميرات بصدق وشغف يعكسان جهوده الجبارة في مجال الطفولة، ويظهر على شاشات التلفزيون كرجل لا تهمه الأضواء بقدر ما تهمه الرسالة.
محمد كلوين هو فصل في كتاب الحياة، رجل لن يجود به الزمان مرتين.
يحمل عبء أحلام الآخرين على كتفيه، ويشق الطريق لأولئك الذين لا يملكون خريطة.
إذا كانت الفلسفة تبحث عن المدينة الفاضلة، فقد تجسدت فيها روح كلوين، رجل يستحق الشكر والتقدير، لأنه اختار أن يكون الإنسان أولًا، والقائد ثانيًا، والبطل الذي يعبر الزمن ليبقى خالدًا في ذاكرة كل من عرفه.
محمد كلوين ليس فقط اسمًا يلمع في سماء العمل الجمعوي، بل هو تيار جارٍ يحمل في مياهه بذور الأمل، ويمضي بلا كلل نحو الأفق الأوسع. حين تراه يتنقل بين المدن، بين الأحياء الشعبية وقاعات الاجتماعات، تدرك أنك أمام رجل نذر حياته لفكرة أكبر منه، لفكرة ترى في الإنسان جوهر كل عمل، وفي الطفولة والشباب كنوزًا تستحق الاستثمار فيها.
كان دائمًا حاضرًا في التفاصيل، في المواقف الصغيرة التي تعكس إنسانيته.
لم يكن يأبه بالمظاهر أو المناصب بقدر ما كان يهتم بقيمة الفعل.
كل كلمة نطق بها، كل مشروع أشرف عليه، كل لقاء نظمه، كان يحمل معه رسالة واحدة: أن التغيير يبدأ من القلوب المخلصة والعقول النيرة.
حتى في أحاديثنا الشخصية، كان محمد كلوين يحمل روحًا تجمع بين البساطة والعمق، بين الجدية والمرح.
كان يملك قدرة فريدة على استيعاب الآخر، على الإنصات بصدق، على بناء جسور بين أفكار متباعدة.
كان مثقفًا، قارئًا نهمًا، يلتقط المعاني من بين السطور، يفسرها بعين الفيلسوف وقلب الإنسان العادي.
ان ما يميزه حقًا هو إيمانه العميق بأن العمل الجمعوي ليس مجرد نشاط تطوعي أو مسؤولية مؤقتة، بل هو أسلوب حياة.
كان يرى في كل طفل يرسم ابتسامة في مخيم صيفي انتصارًا على الإحباط، وفي كل شاب يجد فرصة للتعبير عن نفسه بداية لحلم جديد.
كان يدرك أن التغيير الحقيقي لا يُقاس بالنتائج الفورية، بل بالتأثير الذي يتركه في النفوس والأرواح.
محمد كلوين هو الرجل الذي يرفض أن يكتفي بدور المراقب.
هو من يسعى دائمًا للوقوف في الصفوف الأمامية، حيث التحديات الكبرى والصراعات الصعبة.
هو الذي لا يترك مشكلة دون محاولة حلها، ولا يمر بأزمة دون أن يمد يده ليخفف من وطأتها.
عندما أسترجع تفاصيل هذه الرحلة، أجدني ممتنًا لفرصة معرفته، لهذا اللقاء الذي فتح لي أفقًا جديدًا لفهم معنى القيادة الحقيقية.
محمد كلوين ليس فقط رجلًا يحقق الإنجازات، بل هو نموذج يُلهمنا لنكون أفضل، لنرى في العمل الجمعوي مساحة للتجدد والعطاء، ولنؤمن بأن كل إنسان قادر على أن يترك أثرًا، مهما كان بسيطًا.
وفي زمن تُنسى فيه القيم، ويغلب فيه السعي وراء المصالح الشخصية، يظل محمد كلوين شمعة مضيئة، تذكرنا بأن العطاء الحقيقي هو الذي ينبع من القلب، وبأن القادة الحقيقيين هم أولئك الذين لا يبحثون عن التصفيق، بل عن أثر دائم يبقى حتى بعد غيابهم.
لا يمكن الحديث عن محمد كلوين دون التطرق إلى روحه التي تمزج بين الحلم والعمل. في كل خطوة يخطوها، تشعر بأنه يسعى لإعادة تشكيل الواقع الذي نعيشه، واقع تتقاذفه أمواج اللامبالاة والصراعات الصغيرة.
كان يرى في كل لقاء فرصة لبث الأمل، وفي كل مشروع تحديًا يستحق أن يُخاض.
وما يثير الإعجاب في هذا الرجل هو طاقته اللامحدودة.
رغم المهام الكثيرة التي تقع على عاتقه، ورغم المسؤوليات التي تكاد أن تستهلك وقت أي شخص آخر، كان كلوين دائمًا حاضرًا بكل جوارحه.
في الاجتماعات، كان المتحدث الهادئ الواثق الذي يعرف كيف يوجه النقاش نحو الحلول بدلًا من التشبث بالمشكلات.
وفي الميدان، كان القائد العملي الذي لا يخجل من رفع كرسي أو ترتيب مائدة في مخيم للأطفال، لأنه يؤمن بأن القيادة هي قدوة قبل أن تكون سلطة.
رجل مثل محمد كلوين ليس فقط رائدًا في العمل الجمعوي، بل هو أيضًا مصدر إلهام للذين يعرفونه عن قرب.
كل كلمة يقولها، وكل ملاحظة يشارك بها، تحمل في طياتها رؤية عميقة وتجربة غنية. لا يتحدث لمجرد الحديث، بل ليحفز العقول ويشعل شرارة التفكير.
لقد رأيت فيه صورة القائد المثقف الذي يعرف جيدًا تاريخ الفلاسفة الذين صنعوا التغيير في أزمنتهم. أحيانًا، تراه يقتبس من أفلاطون، وأحيانًا أخرى تجد فيه روح روسو التي تسعى لبناء مجتمع أكثر عدلًا وإنسانية.
لكنه في الوقت نفسه رجل واقعي، يدرك أن الحلم لا يتحقق إلا عبر خطوات صغيرة، وأن البناء الحقيقي يحتاج إلى صبر وعزيمة.
ان أكثر ما يميزه هو شغفه بالطفولة. كان يقول دائمًا إن الأطفال هم المستقبل الذي نبنيه اليوم، وإن كل لحظة نقضيها في تعليمهم ورعايتهم هي استثمار لا يقدر بثمن.
لم يكن يرى الأطفال كأرقام في الإحصائيات، بل كأرواح تحتاج إلى العناية والاهتمام، كأزهار تحتاج إلى تربة خصبة لتنمو وتزهر.عندما أنظر إلى مسيرة هذا الرجل، أجد فيها دروسًا عميقة لكل من يطمح لأن يكون له تأثير إيجابي في مجتمعه.
محمد كلوين لم يكن مجرد رئيس جمعية أو مسؤولًا إداريًا، بل كان فكرة حية، مثالًا حيًا على كيف يمكن للإنسان أن يوازن بين العقل والعاطفة، بين الحلم والواقع، بين الفلسفة والحياة العملية.
يظل محمد كلوين علامة فارقة في تاريخ العمل الجمعوي بالمغرب.
إنه رجل يذكرنا بأن العطاء الحقيقي هو الذي ينبع من الحب، وبأن القيادة ليست تسلطًا أو نفوذًا، بل هي مسؤولية تُمارس بكل إخلاص وتواضع.
وسيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة كل من عرفه، وكل من تأثر بعمله وإنجازاته، كرمز لرجل اختار أن يعيش ليصنع فرقًا، وأن يترك بصمة تبقى بعده.
يبقى محمد كلوين أكثر من مجرد اسم أو شخصية في العمل الجمعوي، إنه رمز حيٌّ للعزيمة والإخلاص.
رجل جمع بين الفكر والعمل، بين الحلم والواقع، وبين حب الطفولة وشغف التغيير.
وفي كل خطوة خطاها، ترك أثرًا لا يُمحى، وفي كل مشروع خاضه، فتح أبواب الأمل أمام من كانوا بحاجة إلى يد تمتد لهم.
هو ليس فقط رجل اللحظة، بل هو رجل المستقبل، الذي أدرك أن البناء الحقيقي يبدأ من الإنسان، ومن الإيمان بأن التغيير يبدأ بفكرة، وينمو بعمل، ويستمر بإرث.
ان محمد كلوين ليس مجرد قائد، بل مدرسة قائمة بذاتها، تعلمنا منها أن القيادة ليست منصبًا، بل خدمة، وأن النجاح الحقيقي ليس في ما نحصل عليه، بل في ما نتركه خلفنا من أثر.
ومن هذا الأثر، سيبقى اسمه محفورًا في قلوب من عمل معهم، وفي ذاكرة من ألهمهم، كواحد من أولئك الذين قلّما يجود بهم الزمن.
Share this content:
إرسال التعليق