مع الحدث : ذ لحبيب مسكر
يُصادف الخامس من أكتوبر من كل عام اليوم العالمي للمعلم، وهو مناسبة دولية للاحتفاء بأحد أهم ركائز المجتمع الإنساني: من يزرع بذور المعرفة ويصنع المستقبل من داخل القسم. في هذا اليوم، تُكرِّم الأممُ معلميها وتُجدّد الاعتراف بدورهم المحوري في تنمية الوعي وبناء الإنسان، غير أن هذا التكريم يبدو في المغرب أقرب إلى طقس رمزي منه إلى تقدير فعلي، إذ يعيش التعليم الوطني وأساتذته وضعاً مقلقاً يستدعي وقفة حقيقية لإعادة النظر في السياسات التعليمية القائمة.
فبينما تُنظَّم المؤتمرات الدولية هذا العام تحت شعار “إعادة صياغة مهنة التدريس باعتبارها مهنة تعاونية”، يعيش المعلم المغربي واقعاً مغايراً تماماً، يطغى عليه الإحباط وتثقل كاهله الإكراهات المهنية والاجتماعية. فالرواتب الهزيلة، ونقص الإمكانيات، وازدحام الفصول، وغياب التحفيز المادي والمعنوي، كلها عوامل جعلت مهنة التعليم في نظر كثيرين مهنة مرهقة لا تلقى التقدير الذي تستحقه. المعلم اليوم يقف وحيداً أمام تحديات كبيرة، في مدارس تفتقر إلى الوسائل، ومناهج تحتاج إلى تجديد، وتلاميذ يعانون من الفوارق الاجتماعية والثقافية التي تعمّق الهوة بين الفئات.
ولا يمكن الحديث عن واقع التعليم دون الإشارة إلى الأرقام التي تكشف حجم الأزمة. فبحسب آخر تصنيفات عالمية، يحتل المغرب مراتب متأخرة في مؤشرات التعليم، إذ جاء في المرتبة 98 عالمياً في مؤشر المعرفة العالمي لسنة 2024، بعد أن كان في المركز 92 في السنة السابقة، ما يعكس تراجعاً مستمراً في جودة المنظومة التعليمية وضعف مردودها العام. هذا التراجع لا يرتبط فقط بالبرامج الدراسية، بل أيضاً بغياب رؤية متكاملة تعيد الاعتبار للمدرس وتضعه في قلب الإصلاح التربوي الحقيقي.
المدرسة العمومية، التي كانت يوماً فضاءً لتكافؤ الفرص، تحولت اليوم إلى مرآة تعكس التفاوت الاجتماعي والمجالي، حيث يُحرم آلاف التلاميذ في القرى والمناطق الهامشية من تعليم جيد، وتزداد نسب الانقطاع والهدر المدرسي بشكل مقلق. في المقابل، يجد المعلم نفسه بين مطرقة التهميش وسندان الانتظار، ينتظر إصلاحاً طال أمده، فيما تظل الخطابات الرسمية عن “تحسين جودة التعليم” و”تحفيز الأطر التربوية” شعارات لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
وتزامن هذا اليوم العالمي هذا العام مع احتجاجات شبابية غير مسبوقة، خرج فيها آلاف الشباب المغاربة إلى الشوارع مطالبين بتعليم جيد وفرص عادلة، معتبرين أن المدرسة لم تعد تحقق طموحاتهم ولا تفتح أمامهم آفاق المستقبل. هذه الاحتجاجات، التي شارك فيها حتى قاصرون في بعض المدن، ليست سوى صرخة جماعية تعبّر عن الإحباط من واقع تعليمي متدهور، وتدل على أن إصلاح التعليم لم يعد خياراً سياسياً بل ضرورة وطنية ملحّة.
إن الاحتفاء باليوم العالمي للمعلم في المغرب يجب ألا يقتصر على الكلمات الجميلة والخطب الرسمية، بل ينبغي أن يكون لحظة صدق تُستحضر فيها معاناة المعلمين في الميدان، وتُطرح فيها أسئلة الإصلاح العميق بجرأة ومسؤولية. فالمعلم الذي يُكرَّم اليوم عالمياً يعيش في وطنه أزمات متراكمة، من ضعف الأجر وغياب التحفيز، إلى انعدام الأمن الوظيفي وتراجع المكانة الاجتماعية.
إن أي إصلاح تعليمي جاد يبدأ من الاعتراف بأن التعليم هو المدخل الأساسي للتنمية، وأن المعلم هو جوهر هذا الإصلاح لا هامشه. فبدون مدرسة قوية ومعلم مكرَّم مادياً ومعنوياً، لن يتحقق أي تقدم حقيقي، وستظل الأجيال الجديدة تخرج إلى الشوارع بحثاً عن مستقبل لا تصنعه الشعارات بل تصنعه مدارس حقيقية تُعلّم وتربّي وتبني الإنسان قبل أن تبني الوطن.
تعليقات ( 0 )