في رحاب السكون: دعوة إلى الصمت وخفض الصوت

عبد الله بن أهنية

In the Realm of Stillness: A Call to Silence and Lowering the Voice

في زمن طغت فيه الضوضاء على تفاصيل حياتنا، وأصبحت الأصوات العالية جزءًا من المشهد اليومي المزعج، تبدو الحاجة ملحّة لأن نعيد لأنفسنا لحظة هدوء وتأمل، لحظة نخلع فيها صخب العالم من حولنا وننصت لما بداخلنا. جرّب أن تبتعد قليلًا عن صخب المدينة وضجيجها، أن تختار مكانًا هادئًا وتجلس فيه مع نفسك، تسمع أنفاسك، وتراقب دقات قلبك. حينها فقط ستفهم أو تدرك معنى نعمة الصمت والسكينة، تلك النعمة التي أوصى الله بها عباده.

يقول الله تعالى:

}الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب] {الرعد: 28. [

ولذلك، فإننا كمسلمين ندرك تماماً بأن القرآن الكريم هو ملاذ الطمأنينة، ومصدر الراحة للقلب والروح. وقد فسر العلماء الطمأنينة بأنها سكون القلب الممزوج بالأمان، بينما السكينة هي ثبات النفس في وجه المخاوف، وهدوء يُطفئ قلقًا قد يثور في لحظة من لحظات الحياة. إنها هبة من الله يهبها لمن لجأ إليه وذكره بصدق ويقين.

ومن أسرار السكينة التي يدعو إليها الإسلام، خفض الصوت؛ فهو من الأخلاق الحميدة التي تعكس الرقي والاحترام. وقد أكّد القرآن الكريم على ذلك في وصايا لقمان لابنه، حين قال:

.[لقمان: 19] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}

إنها دعوة لأن يتحلى الإنسان بالهدوء في قوله ومشيته، وأن يتجنّب رفع صوته في غير موضع الحاجة، لأن رفع الصوت دون سبب لا يضيف احترامًا، بل ينقص من قيمة المتحدث. وقد جاء في تفسير هذه الآية أن صوت الحمار هو أقبح الأصوات، ومن يصرخ ويعلو صوته بلا مبرر يُشبهه في ذلك، وهو سلوك مذموم يبغضه الله.

وللإشارة فإن خفض الصوت لا يعني الضعف أو التقليل من قيمة الفرد، بل هو دليل رقيّ وتربية، يبعث على الاحترام ويشيع الطمأنينة بين الناس. وقد تلمس هذا الخُلق في بعض المجتمعات مثل ماليزيا وإندونيسيا، حيث يخاطب الناس بعضهم بعضًا بأصوات منخفضة، في هدوءٍ جميل يبعث الراحة في النفس. على النقيض، نجد في مجتمعات أخرى الأصوات المرتفعة في كل مكان، من الأسواق إلى البيوت، وحتى أمام المساجد وبيوت الله وخاصة من طرف الباعة المتجولين، وكأن الضجيج أصبح لغة الحوار الوحيدة. فبمجرد أن يسلم الإمام يوم الجمعة، فإن لا صوت يعلو صوت الباعة، حيث يعم الضجيج أرجاء المساجد وساحاتها، وكأن رفع الصوت جزأ لا يتجزأ من عملية البيع!

إن تربية الأجيال على هذه القيم لا يجب أن تقتصر على الأسرة فقط، بل يجب أن تمتد إلى المدرسة، والمجتمع بأكمله. فالصوت الهادئ لا يعني فقط حسن الخُلق، بل هو دعامة أساسية لبناء مجتمع متوازن، يعيش أفراده في طمأنينة واحترام متبادل ويعرفون آداب الحوار والتواصل.

ولعل الكثير منا، وخاصة ممن عايش أيام الزمن الجميل، أصبح يحن إلى ذلك الصمت المطبق وهدوء وسكون ليالي الصيف المقمرة وليالي الشتاء الباردة التي لا يمزق سكونها سوى أصوات الرعد المدوية بين الجبال والتلال أو زمهرير الرياح المسترسلة الي تلامس أسلاك الكهرباء في المدن وأغصان الأشجار في القرى والبوادي. لا يعانق أصوات الرياح تلك سوى عويل الذئاب في أعالي الجبال، ونباح الكلاب الجائعة في الكهوف وعلى أبواب كوم التبن الدافئة، وزفرات التعساء والفقراء الباحثين عن الدفء تحت اللحاف والبطانيات الثقيلة.

كم أصبحنا نشتاق إلى ذلك الصمت بعد سكوت قطرات الماء وإيقاعاتها الموسيقية الجميلة بعد صخب الأمطار الغزيرة. كان لسكون الليل دورا فعالا في نسج أفكار عويصة كانت تدور في بالنا وتنسجها مخيلتنا خلال النهار لنجد لها حلولا وآفاقا للتطبيق ونحن نتقلب في المضاجع، على أمل أن تداعب أنامل النعاس أجفاننا كي نسلّم أرواحنا لبارئها ونخلُد إلى نوم ثقيل وطويل، على أمل بزوغ نور فجر جديد وأشعة شمس دافئة تلامس آمال ميلاد يوم جديد. لم تكن المدن ولا حتى القرى والبوادي تعرف صخب الأصوات وحدّتها كما هو الحال اليوم، بل كنا ونحن صغارا نلعب ونلهو تحت نور القمر وبين الفينة والأخرى تباغتنا البوم بحدّة صوتها الذي تردده سفوح الهضاب والجبال، وبمجرد عودتنا إلى بيوتنا، لا نسمع إلا أصوات البهائم في مراقدها وهي تجتر، بعيون مغمضة، ما أكلته طيلة يومها، أو نباح الكلاب وكأنها ترد على بعضها البعض في جنح الظلام أو تحت أنوار القمر.

كيف تُلحق الأصوات الحضرية عالية النبرة الضرر بالهدوء والصحة:

وبالرجوع إلى أيامنا الآن وكلما ابتعدنا عن تلك الأيام الخالدة، نجد أنفسنا أمام ظاهرة الصخب والضوضاء مما ساعد على انتشار الأمراض النفسية والقلق بين بني البشر سواء في المدن أو القرى والبوادي. وقد أكد علماء الدين والأطباء وعلماء النفس على الآثار السلبية لصخب الأصوات على الصحة الجسدية والنفسية. ومما لا شك فيه أيضاً أن الضجيج المستمر يقلل القدرة على سماع أصوات الطبيعة والتمتع بكل أطيافها. وعلى الرغم من أن الصوت العالي قد يكون أحياناً كلون من التعبير عن الغضب أو محاولة للدفاع عن النفس، إلا أنه، وبحسب الخبراء في هذا الميدان، يسبب العديد من الأمراض ويدفع بالإنسان إلى التوتر المقلق أو يُشعر من هم حول ذلك الشخص المزعج بنوع من الإحساس بالذعر. كما أن الأصوات المزعجة الآتية من الشارع غالباً ما تكون سبباً للقلق والانزعاج خاصة عند الاستيقاظ، بل تتسبب في ازعاج الموظفين في مكاتبهم وعدم قدرتهم على التركيز في العمل، ومعاناتهم من الانفعال المستمر بسبب هذه الضوضاء المُزعجة. وعكس البوادي ففي المدن الكبيرة قد يتفاقم الوضع بسبب ضعف تطبيق لوائح حجب الضوضاء في العديد من مكاتب العمل أو الشقق الخاصة بالسكن. وكانت الدراسات قد أظهرت أن للضجيج أضرارا كبيرة تشمل صحة السمع وصحة القلب، وقد تزيد مخاطر الوفاة في بعض الحالات.

الصمت مصدر قوة عظيمة:

قال الباحث الأميركي كورت فرستروب إن ارتفاع مستوى الضجيج والضوضاء بصورة مستمرة في الكثير من المناطق حول العالم، بما في ذلك حتى القرى والبوادي، يؤدي إلى الحد من قدرة الإنسان على إدراك أصوات الطبيعة الجميلة وسماعها والاستمتاع بها في جو من الهدوء والسكينة. وصرح فرستروب خلال مؤتمر الجمعية الأميركية لتقدم العلوم في مدينة سان خوسيه بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة، أن الضجيج في حد ذاته يعد مشكلة حقيقية وآفة هذا الزمن. وأوضح أن سبب ذلك هو أننا نعود أنفسنا على عدم إدراك المعلومات التي تصل إلى آذاننا، وبذلك يؤثر هذا الأمر على إدراك أصوات الطبيعة وسماعها لدى الفرد. وبما أن المدن قد ازدهرت ليس فقط من خلال التجارة والتواصل، بل أيضًا من خلال التوازن بين الصوت والصمت، فخلقت بذلك ملكة الذوق الرفيع لدى الأفراد وأذاقتهم طعم التمتع بالأصوات الجميلة والشجية. أما اليوم، فقد اكتسح الضجيج معظم زوايا المدن وأزقتها وأصبح الهدوء في الحياة الحضرية نادرًا. فشوارع المدن تمتلئ بشكل متزايد بأصوات السيارات والدراجات النارية عالية النبرة المزعجة، وأصوات الباعة المتجولين حتى أمام المساجد وبيوت الله وقرب المستشفيات والأماكن العامة، وكذلك أصوات مكبرات الصوت المضخمة في الأعراس والمناسبات وحتى في تأبين الجنائز. الهدوء الذي كان يُغذي الفكر والراحة والصحة النفسية قد أصبح يتلاشى بسرعة تحت وطأة موجة صوتية مستمرة.

وهكذا فإن سكان المدن، عن علم أو بغير علم، يدفعون الثمن – عاطفيًا وجسديًا ونفسيًا- مقابل اللهث خلف كسب المال والترف، أو بكل بساطة، البحث عن لقمة العيش وتكبد كل تلك المتاعب والخرقات. وبدون شك، لن تكفي هذه المقالة للحديث عن الآثار المتعددة الجوانب لتلوث أجواء المدن وكذلك تلوث الصوت عالي النبرة ومدى تأثيره على صمت المدن ورفاهية الناس. ولذلك أصبح الناس يتمنون لحظات الهدوء ونعمة الصمت التي تبعث في النفس روح الطمأنينة والارتياح. إنها نعمة بحق ومكرمة من الله لخلقه إن هموا عرفوا كيف يحافظون عليها.

تصاعد التلوث الصوتي في المناطق الحضرية:

مع النمو الصناعي والتقدم التكنولوجي الهائل، وكذلك الإنتاج الضخم للمركبات والسيارات بكل أنواعها، شهدت المدن تحولاً سمعياً خطيراً وملفتاً للنظر. فالمشهد الصوتي العادي الذي كنا نسمعه آنفاً بما في ذلك الصوت الإيقاعي لخطوات الأقدام في الشوارع والأزقة والدراجات الهوائية والمحادثات البعيدة، أصبح الآن يهيمن عليه هدير أبواق السيارات وهدير المحركات وهدير الآلات وصوت الباعة المتجولين والشحاتين. واللافت للنطر وعلى وجه الخصوص، تخترق أصوات الدراجات النارية المعدلة والمركبات التوربينية عالية النبرة هواء المدينة، وتمزق هدوء الليل دون أي قيود في كثير من الأحيان في المدن الكبيرة، بل وحتى في المدن الصغيرة والقرى النائية. ففي المدن الكبيرة مثل الدار البيضاء ونيويورك والقاهرة والرياض وجاكرتا ومومباي وغيرها، أصبح ضجيج المدن عالي النبرة هو القاعدة أو السمة السائدة، مما يضيق المجال أمام وجود أماكن غير مزعجة وهادئة كملجأ للتمتع بالهدوء والسكينة بعيداً عن الضوضاء والصخب الصوتي. وحتى في الضواحي بتلك المدن، أصبح صخب الأصوات العالية يُحطم الهدوء مع انبعاث أصوات مفاجئة وحادة تُهزّ النوافذ وتُرهق الأعصاب والنفس وتعكر المزاج.

خلاصة:

لقد أضحت ظاهرة الأصوات العالية والضجيج ظاهرة مقلقة خاصة ونحن نعيش في عالم يضجّ بالأصوات المتداخلة والضجيج المستمر بشكل يومي، أصبحت معه نعمة الصمت عملة نادرة وسبيلاً ضرورياً لاستعادة التوازن الداخلي والسلام النفسي. ليست دعوة الصمت ضعفاً أو انسحاباً من الحياة، بل هي استجابة عاقلة لحاجة الإنسان إلى التأمل، وإعادة شحن الطاقة، وإعادة التواصل مع ذاته بعيداً عن التشويش والإزعاج. لقد أدرك العلماء والمفكرون منذ زمن بعيد القيمة العظيمة للصمت والهدوء. يقول العالم الفيزيائي الشهير نيكولا تسلا: “الصمت من أعظم مصادر القوّة.” ويقول ألبرت أينشتاين: ” الهدوء وسط الضجيج هو علامة على العقل الكبير.” أما الطبيب وعالم الأعصاب مارك والدمان، فقد أثبتت دراسته أن: “الصمت لمدة يومين فقط يمكن أن يُعزز نمو خلايا دماغية جديدة في منطقة مرتبطة بالتعلّم والذاكرة والانفعال.”

إننا مدعوون جميعاً لإعادة النظر في طريقة تواصلنا وصوتنا في الحياة اليومية، لنمنح أنفسنا والآخرين مساحة من السكينة التي باتت مطلباً صحياً ونفسياً وروحياً. فخفض الصوت ليس فقط سلوكاً حضارياً، بل هو عبادة قلبية تتناغم مع فطرة الإنسان، وتفتح له أبواب الطمأنينة التي وعد الله بها عباده الصالحين حيث قال عز وجل: }ألا بذكر الله تطمئن القلوب{ ]الرعد: 28. [

فلنستمع أو نصغِ إلى أنفسنا في لحظات الصمت، ففيها أحياناً، نسمع ما لا يُقال، ونفهم ما تعجز عنه الكلمات. وبما أننا مقبلين على تنظيم تظاهرات رياضية كبيرة منها كأس العالم لكرة القدم، على سبيل المثال، فلا بد من الحد من أصوات الدراجات النارية والسيارات المزعجة ليلاً ونهاراً، بل وحتى بعد منتصف الليل، وكذلك إعادة النظر في بعض مكونات سلوكنا، كرفع الصوت عند التواصل وفي الأسواق والشوارع وحتى أمام المساجد، والشتم والسب علانية وجهرة، وعدم ادراك بأن لضيوفنا القادمين من شتى بقاع العالم حق الاستمتاع بالهدوء والسكينة كباقي الأمم.

باحث في مجال التربية والتعليم والثقافة

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 1 )
  1. لمياء ريان :

    مقال هادئ جميل كعنوانه،الصمت ،الطمأنينة والسكينة. كم نحن محتاجين لكل هذه المفاهيم في عالم تزاحمت فيه الأفكار والمشاعر والأحلام…والانفاس ايضا.

    0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)