مجتمع بلا ضمير: حين تسقط الإنسانية أمام اللامبالاة

هند بومديان

في زمن صار فيه التقدم التكنولوجي يختصر المسافات بين البشر، يبدو أن القلوب تبتعد أكثر فأكثر. تغيب الثقة، وتتفشى اللامبالاة، وكأن الإنسانية تتآكل من الداخل. لم يعد الناس يسندون ظهورهم لبعضهم البعض، ولم تعد الكلمات تحمل ثقلها القديم، بل صارت مجرد أصوات فارغة تتلاشى في الهواء.

ما الذي حدث حتى فقدنا الإحساس بمعاناة الآخر؟ كيف أصبحنا نمرّ بجوار الألم كأننا لا نراه؟ لقد صار الجرح أمامنا مشهداً عادياً، حتى الدموع لم تعد تثير فينا سوى ضيق لحظي سرعان ما ننساه. إن انعدام الإحساس لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات من الخذلان، والخداع، والخوف المستمر من أن نُلدغ كلما منحنا الثقة لأحدهم.

أصبح المجتمع أشبه بغابة، حيث كل فرد يحمي نفسه بسياج من البرود والعزلة، ظناً منه أنه بذلك ينجو. لكن أي نجاة هذه التي تجعل الإنسان يشيح بوجهه عن مظلوم، أو يمرّ بجوار محتاج دون أن يلتفت؟ إن غياب الثقة ليس مجرد مشكلة اجتماعية، بل هو مرض ينخر العلاقات، يحوّل الصداقة إلى ساحة شك، والحب إلى حقل ألغام، والعمل الجماعي إلى صراع بقاء.

لقد تآكلت الثقة لأن الخداع أصبح قاعدة وليس استثناء. كم من شخص صدّق وعوداً لم تتحقق؟ وكم من يد امتدت بنية صادقة، فقوبلت بالخيانة؟ حين تتكرر الصدمات، يصبح الانغلاق ملاذاً آمناً، لكن هذا الملاذ سرعان ما يتحول إلى سجن. الإنسان بطبعه يحتاج إلى الآخرين، إلى كلمة طيبة تداوي، إلى يد تمسك به حين يتعثر، إلى إحساس بأن هناك من يرى ألمه حتى وإن لم يصرّح به.

غياب الإحساس والثقة يهدد المجتمع أكثر مما تفعل الأزمات الاقتصادية أو السياسية، لأن المجتمع الذي يفقد تماسكه الداخلي، يتحول إلى كيان هش، سهل الانهيار. لسنا بحاجة إلى قوانين جديدة تلزمنا بأن نكون أكثر إنسانية، بل إلى استعادة شيء من الفطرة التي جعلتنا نشعر بالآخر قبل أن تحكمنا المصلحة الشخصية.

ربما لن نعيد الثقة بالكامل، ولن نستعيد الإحساس الذي ضاع فجأة، لكن بإمكاننا على الأقل ألا نكون جزءًا من هذا الجفاف العاطفي. أن نصغي، أن نحاول الفهم، أن نمدّ يد العون حتى لو كان المقابل مجرد ابتسامة صادقة. فالعالم ليس بحاجة إلى مزيد من القوة، بل إلى مزيد من القلوب الحية.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)