For a Safe and Healthy Environment: Our Path to Enhancing the Healthcare System
مقدمة:
في ظل ما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من انتقادات حادة لواقع المستشفيات وظروف البيئة الصحية داخلها، يبرز موضوع نظافة المرافق الطبية كقضية محورية تمس بشكل مباشر سلامة المواطنين وثقتهم في المنظومة الصحية. ورغم الجهود المتواصلة التي تبذلها الوزارة المعنية لإصلاح الاختلالات وتكريس مبدأ “الصحة للجميع”، فإن النقاش العمومي حول جودة الخدمات والنظافة يكشف حجم التحديات المطروحة، ويؤكد أن تحسين البيئة الصحية ليس مطلبًا عابرًا، بل ركيزة أساسية لضمان الحق في العلاج في ظروف تصون كرامة الإنسان. وبحكم تجربتي في الإشراف على برامج تدريب لعدد كبير من الأطباء والممرضين والممرضات في مجالي اللغة والتواصل بالشرق الأوسط، وجدت من المناسب أن أشارك بعض الأفكار التي أتمنى أن تسهم في خدمة هذا القطاع الحيوي.
أهمية البيئة الصحية:
ورد عن فلورنس نايتنجيل (1910-1820 ، مؤسسة التمريض الحديث) أن “أول شرط في أي مستشفى هو ألا يُلحق أي ضرر بالمريض.” ومما لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية أكدت على ذلك، وقد حرّم الإسلام الضرر بكل أنواعه، وكذلك الضرار بكل صوره، وجميع أشكاله، حتى حرّم الإضرار بالآخرين منذ ولادتهم إلى حين وفاتهم، بل وبعد موتهم، فحرّم إضرار الأم بولدها، كما قال الله تعالى } : لا تضار والدة بولدها { ( البقرة : 233 ) ، وحرّم تغيير الوصية بعد سماعها أو تلقيها، وحرّم إضرار الموصي في وصيّته ، وحفظ لكل مخلوق حقوقه، وللأموات حقوقهم حتى حرّم سب الأموات. عن أبي سعيد سعد بن سنان الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )لا ضرر ولا ضرار ( ، حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما.
ومما لا شك فيه أن الإهمال أو التقصير في خدمات المستشفيات والمستوصفات الطبية هو نوع من الاضرار بمصالح الناس وبأرواحهم. وفي كتاباته المتعلقة بالطب والاستشفاء، شدّد أبقراط (460-370 قبل الميلاد، وهو كما يقال “أبو الطب”) على أهمية بيئة أماكن الاستشفاء حيث قال بأنه: “يجب أن يكون الطبيب قادرًا على استبصار الماضي، ومعرفة الحاضر، والتنبؤ بالمستقبل… وأن يكون لديه هدفان خاصان فيما يتعلق بالمرض، وهما: فعل الخير أو عدم إلحاق الضرر.”
وكما أبرز “أبو الطب الاجتماعي” كما يقال، رودولف فيرشو (1821-1902 وهو طبيب ألماني)، الدور الاجتماعي للطب وضرورة أن تُعالج المستشفيات مشكلة عدم المساواة في الرعاية الصحية: “الطب علم اجتماعي، والسياسة ليست سوى طب على نطاق أوسع.” وقد جادل هذا الأخير بأن المستشفيات يجب أن تكون أماكن لعلاج المرضى، ولكن أيضًا للوقاية من الأمراض من خلال توفير ظروف صحية لائقة.
الصحة والرعاية الصحية أولاً:
لطالما كنا نردد ونحن صغار في المدارس الابتدائية مقولة “العقل السليم في الجسم السليم”، بل كانت توضع على شكل لوحة تزين جدران مدرستنا في البراري. كنا نردد تلك المقولة ولم نستوعب حقيقتها إلا لاحقاً، إذ أصبحنا نرى مرضى ومجانين ومشردين في الشوارع، وأدركنا بأن اهمال الجسم وتركه عرضة للأوساخ لا يولد سوى الأمراض والخروج بالعقل عن الصواب. ولذلك فقد سبقت الفطرة والادراك العقلي الصائب حقيقة الطهارة والنظافة وما تجلبه من سعادة للفرد والمجتمع. أدركنا أيضاً أن الإهمال لا يولد سوى الفوضى والفتن. والدليل على ذلك، فإن المجتمع قد يصبر على نوع من الفوضى لفترة، ولكن لا يمكنه أن يسكت عنها إلى الأبد. وهكذا رأينا في الآونة الأخيرة أن الجميع أصبح يهتف بأن “الصحة أولاً” نظراً لتردي خدمات بعض المستشفيات والمستوصفات، ونقص ملحوظ في الأطر والمعدات والوسائل. كما يشدد البعض على أهمية بيئة أماكن الاستشفاء وضرورة إعادة النظر فيها وتطويرها كي تتماشى مع “مغرب اليوم”، ويرتبط هذا المبدأ ارتباطًا مباشرًا بالحفاظ على المستشفيات في ظروف تحمي المرضى وتصون كرامتهم ولا تؤذيهم، وحتى لا تجرف موجة الخصخصة مرافق الصحة العمومية.
مغرب الريادة:
لا يمكن بأية حال من الأحوال انكار ما تم إنجازه فيما يخص بناء مستشفيات كبيرة وأخرى جامعية، لكن الغاية المنشودة هي أن تبنى وأن تعطى أهمية قصوى وبنفس الوثيرة التي تم بها تشييد الملاعب الكبرى والطرق ومحطات القطار والسكك الحديدية والموانئ، لأن مغرب اليوم لابد وأن يتسم بالشمولية ومراعاة كل القطاعات وبمقاربة مبنية على المساواة فيما بخص وتيرة التشييد والاهتمام.
الاستفادة من اليد العاملة الفلبينية:
لا شك أن تبادل الخبرات والمعارف يثري الوسط الثقافي والاجتماعي داخل المستشفيات ومؤسسات الرعاية الصحية. وبما أن لدينا أطر وكوادر طبية من ذوي المستويات العالية، فلماذا لا يتم جلب يد عاملة من الخارج لتساند وتساهم في بناء منظومة صحية متكاملة وبمواصفات عالمية؟
وعلى سبيل المثال، وبحكم التجربة، حيث اشتغلت جنباً إلى جنب مع مختلف الفئات والتخصصات من الفلبين في إحدى أكبر المدن الطبية في الخليج، يمكنني القول أن من أبرز المزايا التي قد يستفيد منها المغرب عند الاستعانة بالممرضين والممرضات والكوادر الطبية من الفلبين ما يلي:
الكفاءة العالية والتكوين الجيد:
فالكوادر الطبية الفلبينية مشهود لها عالميًا بجودة تكوينها الأكاديمي والعملي، إذ أن الفلبين تُعد من الدول المصدّرة للكوادر الصحية المؤهلة للعمل في أمريكا، أوروبا، والشرق الأوسط.
إتقان اللغة الإنجليزية:
يمكن الجزم بأن معظم الممرضين الفلبينيين يتقنون الإنجليزية، مما يسهل اندماجهم في النظام الصحي المغربي ويعزز التواصل مع الأطباء الأجانب والمرضى من جنسيات مختلفة.
الخبرة الدولية:
هناك نسبة كبيرة من الممرضين الفلبينيين عملوا في بلدان مختلفة، ما يمنحهم خبرة عملية واسعة ومتنوعة في التعامل مع حالات وأمراض متعددة.
الأخلاقيات المهنية والانضباط:
يشتهر الممرضون الفلبينيون بالجدية والانضباط، إضافة إلى التعاطف والقدرة على التعامل الإنساني مع المرضى، وهي صفات تزيد من جودة الخدمة الصحية.
تغطية العجز في الموارد البشرية:
لا شك أن المغرب يعاني من خصاص في الكوادر الطبية والتمريضية، ولذلك فإن الاستعانة بالفلبينيين سيخفف الضغط عن المستشفيات والمراكز الصحية، كما سيغطي العجز الحاصل في الأماكن النائية والقرى والبوادي غبر كل جهات المغرب.
نقل الخبرة وتبادل المهارات:
ولا شك أن وجودهم قد يشكل فرصة لتبادل الخبرات مع الممرضين المغاربة وتطوير معايير التمريض والرعاية الصحية محليًا.
المرونة في العمل والتأقلم:
يمتاز الفلبينيون بسرعة الاندماج في بيئات العمل المختلفة وقدرتهم على التأقلم مع ثقافات وأنظمة جديدة، مع سمعتهم الطيبة في اتقان العمل.
عامل اللغة ونظام التشغيل:
فيما يتعلق بالجانب الإداري–التشغيلي فإن لذلك وبدون شك تأثيراً مباشراً على القطاع الصحي وخدماته.
ويبقى السؤال المطروح هو: هل يمكن للمنظومة الصحية في بلدنا الانتقال من الاعتماد على الفرنسية إلى الإنجليزية في أنظمة التشغيل والمواعيد؟ ولما لا، فقد يحمل ذلك مجموعة من الفوائد، لكن لا يمكن إنكار حقيقة أن هناك أيضًا تحديات.
الفوائد المحتملة:
تسهيل الاستعانة بالكوادر الأجنبية
أغلب الكفاءات الطبية الدولية، خاصة من الفلبين والهند ودول إفريقيا وآسيا، تتقن الإنجليزية أكثر من الفرنسية، ما يسهل دمجهم بسرعة في النظام الصحي المغربي.
تعزيز التوافق مع المعايير العالمية:
بما أن الإنجليزية هي اللغة السائدة في المجال الطبي والبحث العلمي، فبالتالي استخدام أنظمة تشغيل ومواعيد بالإنجليزية يجعل المغرب أقرب إلى المعايير الدولية.
جذب الاستثمارات الطبية الأجنبية:
قد يساعد ذلك في تسهيل التعامل مع شركات دولية مصنعة للأدوية، الأجهزة الطبية، والمختبرات التي تعتمد الإنجليزية في عقودها وأنظمتها.
تطوير التكوين الطبي المستقبلي:
الطلبة والأطباء المقيمون سيتدربون أكثر على الإنجليزية الطبية Medical English، مما يسهل مشاركتهم في المؤتمرات الدولية والوصول إلى أحدث الأبحاث.
دعم السياحة العلاجية:
بما أن المغرب يسعى ليكون وجهة إقليمية للعلاج، فاعتماد الإنجليزية ربما سيسهل التواصل مع المرضى الأجانب غير الناطقين بالفرنسية.
التحديات:
سبق وأن أشرنا إلى أن قضية الانتقال من لغة إلى أخرى قد لا يتم بتلك السهولة التي نتصور، لكن بما أن ادماج اللغة الإنجليزية أصبح وارداً في مجالات عدة، فبالإمكان خوض هذا التحدي مع التركيز على اتقان اللغة العربية والحفاظ على الهوية المغربية بكل أطيافها ولهجاتها. وفيما يلي بعض التحديات التي لابد من مواجهتها بحزم:
الانتقال التدريجي صعب:
أغلب الأطر الطبية الحالية والمرضى معتادون على الفرنسية، مما قد يخلق فجوة في التواصل إذا تم التحول بشكل سريع.
تكاليف إضافية:
تغيير البرمجيات الطبية، الوثائق، والسجلات إلى الإنجليزية يحتاج إلى استثمار مالي وبشري.
التدريب وإعادة التأهيل:
سوف يحتاج الأطباء والممرضون المغاربة إلى تكوين إضافي في الإنجليزية الطبية لتفادي الأخطاء.
خلاصة:
يمكننا القول بأن “مغرب اليوم” قد أثبت للعالم بأنه قادر على التحديات الكبرى بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله ، وأنه مقبل على تحولات شاملة في معظم القطاعات والمجالات، لكن الإرادة المجتمعية تلح على أن قاعدة التطوير هذه لابد أن ترتكز على ثلاثة محاور وهي:
الصحة
التعليم
تنمية العقل البشري
تلك حلقات متماسكة ويتأثر بعضها ببعض. فكما قلنا في بداية هذا المقال “العقل السليم في الجسم السليم”، ولتحقيق ذلك، لابد من تطوير شامل لمنظومة الصحة في بلدنا والعمل على تطوير الأطر والكفاءات وتدريبها على اتقان العمل والتواضع أمام المريض واستحضار الوازع الديني وما أوصى به ديننا الحنيف في ذلك وصون وحفظ كرامة المريض والحفاظ على أسراره، مستحضرين في ذلك بأن الله عز وجل قد كرم بني آدم، وأوصى بالحفاظ على الروح.
نعم، ربما سيستفيد المغرب على المدى الطويل من الانتقال إلى الإنجليزية في أنظمة التشغيل والمواعيد الطبية، خاصة إذا كان هدفه جذب الكفاءات الأجنبية وتدويل قطاع الصحة، لكن يبقى الحث والتدريب على اتقان العمل والمحاسبة الحقة وتوفير التدريب الموازي (Parallel Training) وتكافؤ الفرص، عوامل يجب اتخاذها بعين الاعتبار وبكل جدية وحزم. لكن من الأفضل أن يتم ذلك بشكل تدريجي، عبر اعتماد نظام ثنائي (فرنسي–إنجليزي) في البداية، ثم التحول التام بعد فترة انتقالية.
وكما أوصى الطبيب الكندي ويليام أوسلر (1849- 1919، وهو أحد مؤسسي مستشفى جونز هوبكنز)، بالحفاظ على نظافة المستشفيات وتجويد الخدمات، فقد ربط في آن واحد بين تصميم المستشفيات ونظافتها وأساليب التدريس، حيث قال بأن: “الطبيب الجيد يعالج المرض، أما الطبيب العظيم فيعالج المريض المصاب به.” كما دعمت فلسفته تلك فكرة أن تكون المستشفيات أكثر من مجرد مبانٍ، بل يجب أن تكون بيئات تعليمية جيدة التنظيم وذات طابع إنساني. وما أحوجنا لمثل تلك الآراء التي تضع نصب أعينها مبدأ العدالة الاجتماعية والحق في التطبيب والعلاج لكل فرد بغض النظر عن أي شيء.
وكما أشرنا أعلاه، فحلقات التنمية يرتبط بعضها بالآخر: فلا يمكن تطوير منظومة الصحة دون اصلاح شامل لمنظومة التعليم ورد الاعتبار للمدرسة العمومية وللمعلم، ولا يمكن اصلاح هذين القطاعين دون التركيز على تنمية العقل البشري. فلابد من الاستثمار في المدرسة العمومية وتطويرها بشكل لافت، والعمل على اعداد كوادر وكفاءات طبية تربت وترعرعت في بيئة تعليمية سليمة من كل الشوائب، وذات صلة بمورثها الديني والثقافي والفلسفي والاجتماعي. وإذا تحققت العدالة الاجتماعية والمجالية في تلك القطاعات الثلاث، فإن ذلك من شأنه أن يضمن تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تضمن للفرد حقوقه وتصون عقيدته ومبادئه وكرامته وهويته، ولا قيمة لذلك أن نحن فرطنا في مكارم الأخلاق وحسن التعامل والتراحم بيننا، وحري بنا أن نقف على أبيات الشاعر أحمد شوقي حيث قال:
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيَتْ
فَإِنْ هُمُ ذهبَتْ أخلاقهمْ ذهبوا
وقال غيره:
مَنْ يزرعِ الخيرَ في نفسٍ سيحصدهُ
لن يحصدَ الشّوكَ مَنْ في أرضهِ العِنَبُ
والله ولي التوفيق،،،
باحث في مجال التربية والتعليم والثقافة
مقال يستحق التنويه، لأنه يربط بين البيئة السليمة وجودة المنظومة الصحية. لا يمكن الحديث عن نظام صحي متطور دون بيئة نظيفة وآمنة تحمي المواطن من المخاطر وتدعم الوقاية قبل العلاج. هذا التصور يعكس وعياً استراتيجياً بضرورة التكامل بين الصحة والبيئة لبناء مجتمع أكثر أماناً واستدامة.