من إموزار مرموشة إلى المعهد العالي: لطيفة أحرار.. امرأة بمئة مسرح!

مع الحدث

بقلم ✍️: ذ. لحبيب مسكر

 

كما أشرنا في مقالنا السابق حول مناقشة شهادة الدكتوراه للدكتورة لطيفة أحرار، نعود اليوم لنُلقي الضوء على المسار الكامل لامرأة صنعت لنفسها مكانة فريدة في المسرح المغربي، أكاديميًا وفنيًا.

لطالما كانت لطيفة أحرار أكثر من مجرد اسم فني في سجل المسرح المغربي. هي ابنة الأطلس المتوسط، من مواليد 12 نونبر 1971 بمدينة مكناس، وتنحدر من أسرة أمازيغية من إموزار مرموشة، حيث تشربت في طفولتها دفء الأرض وثقافة الجبل، وتسلحت منذ البداية بشغف لا يهدأ بالفن والحياة.

منذ المراهقة بدأت تلوّن عالمها بألوان المسرح، قبل أن تحط الرحال بالرباط، حيث تخرجت سنة 1995 من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وواصلت تكوينها الأكاديمي في المركز النموذجي للتكوين المسرحي، قبل أن تخوض تجربة الماستر في السينما الوثائقية بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان.

رحلتها الفنية كانت حافلة: ممثلة، مخرجة، مؤطرة، مدرّسة، ومبدعة لا تعرف التوقف. قدمت نفسها للجمهور عبر عشرات الأعمال التلفزية والسينمائية، من بينها:

“من دار لدار” (1996)، “نسيب الحاج عزوز” (2009)، “ساعة في الجحيم”، “عايدة”، “الشعيبية”، “جوع كلبك”، و”واحة المياه المتجمدة” (2024)…

لكنها لم تكن مجرد ممثلة تؤدي الأدوار، بل فنانة تعيش كل شخصية وتحولها إلى مرآة للواقع، تحمل بين طياتها نبض الناس وتفاصيل الهوية المغربية.

لطيفة التي وقفت على أكبر المسارح، لم تتردد لحظة في الوقوف كذلك داخل قاعات التدريس، لتلقّن الأجيال معنى الفن، وقدسية المسرح. واليوم، منذ سنة 2022، هي على رأس إدارة المؤسسة التي أنجبتها: المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي (ISADAC)، في محطة رمزية وملهمة، تؤكد أن من يبدأ من الخشبة قد ينتهي قائدًا للمؤسسة ذاتها.

 

وقد أضافت إلى سجلها المشرق مؤخرًا تعيينها عضوة بمجلس إدارة الوكالة الوطنية لتقييم وضمان جودة التعليم العالي والبحث العلمي، تأكيدًا على ثقة الدولة في كفاءتها وحنكتها الإدارية.

لكن النجاح لا يأتي دون كلفة، فقد وجدت أحرار نفسها وسط زوبعة من الأصوات المشككة، التي لم ترَ في هذا التعيين سوى مجاملة. غير أن الرد كان واضحًا: الألقاب لا تُعطى، بل تُنتزع بالمثابرة، والمعرفة، والموهبة المتجددة.

وبينما كان البعض يعيد إنتاج الصور النمطية عن الفنان، كانت لطيفة ترد عبر أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه بعنوان:

“المسرح الوثائقي بين المسرح والسينما: هل يُعدّ توظيف الوثائقي شكلاً من أشكال كتابة الواقع بطريقة مغايرة؟”

ناقشت أطروحتها بمدينة تطوان، ونالت ميزة مشرف جدًا مع توصية بالنشر، وهي خطوة جديدة في دربها الطويل الذي يجمع بين الهوية، والتجريب، والنظرية.

أثر الأب… جنديٌ زرع الانتماء

في مسارها الحياتي، لا يمكن إغفال حضور والدها، الذي تفتخر لطيفة أحرار بانتمائه للمؤسسة العسكرية، حيث كان جنديًا خدم الوطن بتفانٍ. تقول عنه دائمًا إنه زرع فيها روح الانضباط، والكرامة، والوفاء للأصل. موته لم يكن مجرد حدث عائلي، بل كان زلزالًا وجدانيًا غيّر كثيرًا من ملامح شخصيتها. تتحدث عنه بحرقة، وتستحضر لحظاته معها كلما صعدت الخشبة أو خطت نحو إنجاز جديد.

“رحل جسده، لكن بقي صوته في أذني… يأمرني بالثبات والتقدم”، تقول.

هذا الارتباط العميق بوالدها لم يكن فقط حنينًا شخصيًا، بل أحد مصادر قوتها الداخلية في مواجهة النقد، والعزلة، وضغوط الإدارة والعمل.

شهادة في حق امرأة لا تتكرر

في شهادة فنية صادقة، يقول الفنان المسرحي محمد شهير:

“كلما سمعت اسم لطيفة أحرار، إلا وشعرت بعذوبة تعكس نبرةً سمفونية، تعني الكثير من القيم الإنسانية والبعد الفني. اسمها مزيج من أريج الإبداع وقيم أنسنة الإنسان. جمعتني بها تجربة ضمن لجنة تحكيم برنامج “أينوراز”، ولمست فيها صدق المبادئ وموضوعية المواقف. الدكتورة لطيفة أحرار رمز يزاوج بين الكفاءة العلمية والعطاء الفني. لها مني كل التقدير.”

امرأة تصنع من الفن مدرسة، ومن الحياة رسالة

ولعل أعظم ما يميز لطيفة أحرار، هو قدرتها الفريدة على الجمع بين عوالم تبدو متناقضة: الفن والإدارة، الإبداع والانضباط، البساطة والعمق. إنها سيدة المراحل الانتقالية، من إموزار مرموشة إلى أكبر قاعات المسرح، ومن خشبة التمثيل إلى أعلى منصب أكاديمي.

في زمن السطحيين، لطيفة أحرار ترفع رأس الثقافة عاليًا، وتؤكد أن المرأة المغربية حين تُمنح فرصة، تصنع المعجزات.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)