مولاي عبدالله… جريمة تهز الضمير وتكشف هشاشتنا

فاطمة الحارك

اغتصاب طفل جماعيًا في موسم مولاي عبدالله ليس مجرد حدث عابر بل هو زلزال أخلاقي يكشف إلى أي حد صرنا نعيش في مجتمع هش وعاجز عن حماية أضعف أفراده. ما وقع لا يمكن أن يُختزل في عنوان صحفي مثير أو بلاغ رسمي لأنه يعرّي حقيقة أشد خطورة الطفل في المغرب يظل الحلقة الأضعف معرضًا للعنف والإهمال مكشوفًا أمام ذئاب بشرية لا تجد من يردعها ولا من يمنعها من تحويل جسد صغير إلى ساحة جريمة.

الطفل الذي وقع ضحية لهذه الجريمة لم يُسلب منه جسده فقط بل سُرقت طفولته من جذورها الصدمة التي يعيشها داخله لن تزول مع مرور الأيام، بل ستترسخ في أعماقه لتصبح خوفًا مزمنًا وارتباكًا في الثقة بالآخرين وانفصالًا عن العالم من حوله. المجتمع قد يرى أن العدالة ستأخذ مجراها وأن المذنبين سيعاقبون لكن هيهات ثم هيهات الحقيقة هي أن الأثر الأعمق والأخطر هو الجرح النفسي الذي لا يظهر للعيان لكنه يحكم على الطفل بحياة مختلفة تمامًا، حياة محاصرة بالخوف والانعزال في كل نظرة وفي كل صوت.

الفضيحة الأكبر هي ما يحدث بعد الجريمة. بدل أن يجد الطفل من يضمد جرحه النفسي ويحتويه، يجد نفسه في مواجهة سلسلة من الاستجوابات التي تنهش ذاكرته من جديد. يسألونه مرارا وتكرارا في مركز الشرطة ومرة أخرى في فضول الإعلام وكل مرة يُجبر على استرجاع تفاصيل مأساة لم يستوعبها أصلًا. هكذا يتحول التحقيق إلى اغتصاب ثانٍ ولكن هذه المرة على مستوى النفس، إذ يضطر الطفل إلى مواجهة صدمته مرارًا دون حماية أو حضن يخفف عنه. هنا يبرز سؤال مرير هل نحن نبحث عن الحقيقة أم نعيد إنتاج الجريمة بطرق مختلفة؟

المسؤولية ثقيلة ومتشابكة، تبدأ من غياب رؤية مؤسساتية واضحة لكيفية التعامل مع ضحايا الاعتداءات الجنسية من الأطفال. في مجتمعات أخرى يُجرى استجواب واحد بحضور مختصين نفسيين ويتم تسجيله ليُستعمل أمام القضاء، حماية للطفل من إعادة فتح الجرح. أما في واقعنا فالطفل يُجرجر بين المكاتب والوجوه الباردة ويعامل كأنه مجرد أداة إثبات، بينما إنسانيته وطفولته تُركت خلف الأبواب. أجهزة الأمن تحتاج إلى تكوين خاص يجعلها تدرك أن الطفل ليس شاهدًا عاديًا بل ضحية هشة تتطلب مقاربة مختلفة. القضاء بدوره لا يمكن أن ينظر إلى الأمر من زاوية الأدلة وحدها بل عليه أن يدمج البعد النفسي في إجراءاته. المنظومة الصحية غائبة تقريبًا عن التدخل السريع وكأن الصحة النفسية ليست جزءًا من العدالة والإنصاف. الإعلام يلهث أحيانًا وراء الإثارة فيجعل من المأساة مادة استهلاكية بدل أن يحترم خصوصية الضحية ويحمي كرامته. أما المجتمع فإنه يكتفي بالفرجة أو يلوذ بالصمت أو يختبئ وراء التبريرات.

ما وقع في مولاي عبدالله ليس جريمة معزولة بل رسالة فاضحة تقول إننا نعيش وسط فراغ تربوي وأخلاقي ومؤسساتي، وإن الطفولة في بلادنا بلا حماية حقيقية. المأساة لا تقف عند لحظة الاغتصاب، بل تمتد إلى ما بعده حيث يعيش الضحية في عزلة وصمت محاطًا بوصم اجتماعي يضاعف من محنته، في الوقت الذي يفترض أن يجد فيه حضنًا يحميه ودعمًا يعيد له شيئًا من الأمان.

هذه الجريمة كشفت هشاشتنا أكثر مما كشفت وحشية المعتدين. لقد كشفت أننا لا نملك تصورًا متكاملًا لحماية الطفولة، وأننا نترك الجرح النفسي يتفاقم حتى يتحول إلى عبء جماعي. الطفل الذي لا يجد من يحتويه بعد صدمة بهذا الحجم قد يكبر محاصرًا بالانكسار، وقد يتحول ألمه المكبوت إلى عنف ضد نفسه أو ضد الآخرين. عندها تصبح الجريمة حلقة متواصلة يعاد إنتاجها جيلاً بعد جيل.

السكوت في مثل هذه القضايا ليس حيادًا بل تواطؤًا، والتأجيل ليس انتظارًا بل مشاركة غير مباشرة في صناعة الضحايا. ما وقع في مولاي عبدالله هو جرس إنذار عنيف يقول إننا بحاجة إلى إعادة التفكير جذريًا في مفهوم حماية الطفل وفي إدماج الصحة النفسية في صلب السياسات العمومية، لأن الطفل لا يطلب عدالة قانونية فقط بل يطلب إنقاذًا لروحه قبل أن تُنهك تمامًا .

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)