مع الحدث عبد الجبارالحرشي
مدخل عام: الدولة كفكرة وواقع دستوري
في التصور الديمقراطي الحديث، لا تختزل الدولة في شخص الحاكم، بل هي كيان معنوي ذو سيادة، تمارسها مؤسسات دستورية تشتغل وفق القانون وتعبّر عن الإرادة العامة. يقول الفقيه الدستوري موريس دوفرجيه:
“الدولة ليست شخصاً وإنما تنظيم قانوني له إرادة عامة تُمارَس عبر مؤسسات محددة بدقة”.
في هذا السياق، تمثل المؤسسات الدستورية أدوات الدولة في ممارسة السيادة وتنفيذ السياسات العمومية، وهي سياسات تُبنى من القاعدة إلى القمة، من حاجيات المواطن اليومية، مروراً بالمجالس المنتخبة، وصولاً إلى الجهاز التنفيذي وعلى رأسه رئيس الدولة.
غير أن هذه المؤسسات لا تنطق ولا تتحرك إلا عبر الموظف العمومي، أي الشخص الذاتي الذي يُجسّد إرادة المؤسسة المعنوية، ويُمثّل القانون أثناء مزاولة وظيفته. من هنا، يُعدّ الموظف العمومي حجر الأساس في بناء الدولة الديمقراطية، لأن أدائه يترجم مباشرة مستوى احترام القانون، ودرجة تحقق العدالة، ومدى ثقة المواطنين في الدولة.
الموظف العمومي: من هو؟ وما دوره؟
في التعريف الواسع، الموظف العمومي هو:
“كل شخص ذاتي يُمارس وظيفة عمومية في إطار قانوني، ويعمل لصالح المرفق العام، وليس لفائدة مصالحه الشخصية أو لصالح أشخاص طبيعيين مهما علت مكانتهم.”
وهذا التعريف يرتكز على أربع دعائم:
1. شخص ذاتي يُجسّد الإرادة العمومية.
2. مُفَوّض من قبل الدولة في إطار قانوني.
3. يخضع لمبدأ الحياد، فلا يجوز له إدخال مشاعره أو قناعاته الشخصية في أداء الوظيفة.
4. يُنفّذ القانون فقط، وليس إرادته أو أوامر خارج النصوص.
وعلى هذا الأساس، عندما ينفذ الموظف العمومي حكمًا قضائيًا بالإعدام، فهو لا يُعدّ قاتلًا، بل يُنفذ ما أمَر به القضاء باسم الشعب. وإذا مارس سلطته القانونية، فهو يتمتع بحماية قانونية خاصة، تسمى بـالحصانة الوظيفية المقيدة بالقانون، وليست مطلقة.
حماية الموظف العمومي: تشريعات وتوازن
أقرّ القانون الجنائي المغربي، كما في أغلب القوانين المقارنة، حماية خاصة للموظف العمومي أثناء قيامه بمهامه. فالمادة 263 من القانون الجنائي المغربي مثلاً تنص على:
“كل من أهان موظفًا عموميًا أثناء قيامه بوظيفته يُعاقب بالحبس والغرامة…”
وقد لاحظت الجهات الرسمية في السنوات الأخيرة، وفق تقارير وزارة العدل والنيابة العامة، تنامياً مقلقاً لحالات “إهانة موظفين عموميين”، وهو ما يستوجب التحليل في ضوء العلاقة الجدلية بين المواطن والدولة.
لكن هذا الحماية ليست مطلقة، لأن المشرع أقرّ أيضًا عقوبات صارمة ضد الموظف العمومي إذا تجاوز القانون أثناء مزاولة وظيفته. من بين هذه العقوبات: العزل، الحرمان من الحقوق الوطنية، الحبس، وحتى السجن النافذ. وهنا نقرأ ما ورد في الفصل 231 من القانون الجنائي المغربي الذي ينص على مضاعفة العقوبة المقررة كظرف تشديد في حق الموظف العمومي .
هذه المقتضيات تؤسس لمبدأ التوازن بين الحماية والعقاب، وتُقرّ بمبدأ المحاسبة في إطار المساواة بين المواطنين.
مبدأ الدفاع الشرعي: بين المواطن والموظف
المشرع المغربي، انسجامًا مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، لم يُلزم المواطن أن يبقى مكتوف اليدين إذا ما تعرّض لاعتداء من قبل موظف عمومي خارج إطار القانون.
بل أقرّ له وسيلتين:
1. الدفاع الشرعي (المواد 124-125 من القانون الجنائي): الذي يسمح برد الاعتداء الحال والغير مشروع، شرط تناسب الرد مع الفعل.
2. التشكي الإداري أو القضائي: من خلال التوجه إلى مؤسسة الوسيط أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان أو القضاء.
لكن الواقع يكشف أن بعض الجهات الإدارية والقضائية تميل إلى توجيه التهم للمواطن بـ”إهانة الموظف” بدل البحث الموضوعي لتحديد من المعتدي فعلاً. وهذا ما يُنتج اختلالًا في الثقة ويغذي شعورًا بالظلم، مما يفسر من جهة أخرى، تزايد حالات الاحتكاك والعنف اللفظي أو المادي بين المواطنين والموظفين.ويزيد ثقة الموظف وإحساسه بالأمان لأنه لن يحاسب إذا خرق القانون لان المنظومة تحميه وترتب الجزاء على كل من انتفض ضده ولو دفاعا عن حقه وسلامته .
إشكالية المحاضر والخصم الحكم
من أبرز الاختلالات المسجلة على مستوى الإجراءات، هو أن الموظف الذي يكون طرفاً في الحادث (الشرطة أو السلطة المحلية) هو نفسه أو زميله من يحرر المحضر الرسمي، مما يُثير الشكوك حول الحياد، ويخالف مبدأ “لا أحد يُحكم في قضيته”، أو كما يقول المبدأ الروماني الشهير:
Nemo judex in causa sua – “لا أحد يكون قاضيًا في قضيته”.
وقد أوردت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها لسنة 2024:
“أن أكثر من 60% من شكاوى المواطنين بخصوص تعنيف رجال السلطة لا تصل إلى التحقيق الجدي، وغالباً ما يُتابع المشتكي بدل الموظف”.
من أجل تفعيل مبدأ المساواة أمام القانون
تقول المادة 6 من الدستور المغربي:
“القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصاً ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له”.
إلا أن التطبيق العملي يُظهر انحرافاً أحياناً عن هذا المبدأ، عندما يُفترض تلقائياً أن الموظف العمومي دائمًا على صواب، وأن المواطن مُدان حتى يثبت العكس، بينما الأصل هو افتراض البراءة ومبدأ المساواة في الخطأ والمسؤولية.
خاتمة تحليلية: نحو دولة تحمي الجميع
الدولة الديمقراطية لا تُبنى فقط على مؤسسات صلبة، بل على عدالة توزّع الحقوق والواجبات بعدل وإنصاف، وتُفعّل القوانين على الجميع دون استثناء. الموظف العمومي ليس خصمًا للمواطن، بل ممثلٌ للدولة، ويجب أن يكون في خدمته، لا فوقه.
وإذا ما تم تعطيل آليات الدفاع الشرعي، أو الانحياز التلقائي للموظف العمومي، فإن ذلك يؤدي إلى احتقان اجتماعي، وتشكيك في حيادية الدولة، واهتزاز في الثقة بالمؤسسات. وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى ما يسميه عالم الاجتماع بيير بورديو بـ”العنف الرمزي”، أي:
“فرض السلطة عن طريق القبول الصامت بظلمها”.
ولهذا فإن إصلاح العلاقة بين المواطن والمؤسسة يبدأ من إصلاح وظيفة الموظف، وتأكيد أنه مواطن أولاً، ومسؤول ثانياً، يخضع للقانون ويُحاسب بمقتضاه، دون امتياز ولا انتقام.فاذا فصلت حالات الدفاع الشرعي التي يمارسها المواطن لرد اعتداء الموظف العمومي الذي يخل بالقانون عند ممارسة مهامه الوظيفية فمن المؤكد ان ارتفاع حالات اهانة الموظف العمومي سينزل بشكل ملحوظ .
تعليقات ( 0 )