مع الحدث متابعة لحبيب مسكر
في شوارع المملكة من الأحياء الشعبية إلى الطرق الرئيسية، ومن محيط المدارس إلى قرب الأسواق، تتكرر مشاهد صادمة: أطفال ومراهقون يركضون خلف الشاحنات، يتسلقون مؤخراتها، أو يتشبثون بالسيارات مستعينين بأحذية مزوّدة بالعجلات ، في مغامرات مميتة قد تنتهي بكارثة في أي لحظة.
لم تعد هذه الظاهرة مرتبطة فقط بأطفال الشوارع أو الفئات الهشة، بل صارت تنتشر في مختلف الأوساط، حتى بين أبناء أسر مستقرة، وفي جميع ربوع البلاد. يتحوّل الشارع إلى مسرح لمغامرات خطيرة، يراها الأطفال “لعباً”، بينما تُنذر في الحقيقة بمآسٍ حقيقية.
الغريب اليوم أن هذه التصرفات لم تعد فقط نتيجة تهور أو تقليد، بل تحولت إلى تحدٍّ بين الأطفال: من يستطيع الركض واللحاق بالشاحنة أولاً؟ من يتشبث بها لأطول مسافة؟ إنها “منافسة الشارع” التي لا تُمنح فيها ميداليات، بل تُسلب فيها الأرواح.
ولمن عاشوا طفولتهم في أزقة المدن المغربية قبل سنوات، يعرفون أن مثل هذه السلوكيات كانت تحدث، لكنها كانت محدودة وفي الخفاء. عندما تدخل شاحنة محمّلة بالبضاعة إلى الحي، كنا نتسلل لركوبها ونحن نختبئ عن أعين والدينا، وكان يكفينا أن يرانا أحد الجيران حتى يصرخ فينا ويوبخنا بشدة، بل ويخبر آباءنا ليكون “الجزاء مضاعفًا” في البيت. كان الحياء من الجار، والخوف من العقوبة، حاجزين أمام التهور. أما اليوم، فكل شيء يحدث أمام الناس، وبدون مساءلة أو خوف.
ولعل أبشع ما يمكن أن يحدث، هو أن تتحول هذه “اللعبة” إلى مأساة حقيقية، كما حدث أمام أعيننا ذات مرة. كان طفلان متشبثين بمؤخرة شاحنة، معتقدين أنها ستتوقف عند أحد الأزقة، لكنها واصلت طريقها نحو شارع رئيسي بسرعة كبيرة. أحد الطفلين، وبحركة غريزية للهروب، حاول إنزال قدمه نحو الأرض ، لكن قوة الدفع سحبته بقسوة، فانقلب جسده واحتكّ بالإسفلت، حتى تمزقت ملابسه وسالت دماؤه، وجلده قد تم كشطه بالكامل… كانت لحظة لا تُنسى، حالة يُرثى لها وسط صرخات من حوله. أما الطفل الثاني، فبقي متشبثًا في رعب، غير قادر على النزول، يتشبث بالحياة، والسؤال الذي ظل معلقًا في عيون الجميع: “أين ستقف هذه الشاحنة؟ ومتى؟”و الطفل متى سينزل و يعود لوالديه؟
هذه الصورة المروعة ليست خيالاً درامياً، بل واقع يومي يمكن أن يشهده أي شارع في أي لحظة. أطفال يُخاطرون بأرواحهم في مغامرات خطيرة وسط غياب الردع، والتوجيه، والمراقبة.
الكثير من العائلات تعاني اليوم من ضعف التواصل مع أطفالها، أو تفتقر للوعي الكافي بالمخاطر التي يواجهها الأطفال خارج المنزل. أما المدرسة، فقلّما تجد فيها برامج حقيقية للسلامة الطرقية أو التربية الوقائية. والإعلام، رغم إمكانياته، لم يضع بعد هذه الظاهرة ضمن أولوياته التوعوية، بينما تعاني الأحياء من غياب ملاعب أو مرافق ترفيهية، فيلجأ الأطفال إلى الشارع بحثاً عن الترفيه، ولو بثمن الحياة.
هذه المشاهد تتكرر يوميًا في جميع المناطق، دون تمييز بين مدينة كبيرة أو صغيرة، مما يجعلها ظاهرة وطنية تتطلب تدخلاً عاجلاً. المطلوب اليوم ليس فقط إلقاء اللوم على الآباء أو السائقين، بل بناء خطة توعية وطنية تستهدف المدرسة، الأسرة، الشارع، والمنصات الرقمية. نحتاج إلى دروس تربوية عملية من سن مبكرة، إلى حملات قوية تُبث بلغات ولهجات قريبة من الأطفال، إلى فضاءات لعب آمنة في كل حي، وتشجيع التبليغ عن هذه السلوكيات من طرف السائقين والمارة.
ما يراه الطفل مغامرة ممتعة قد يكون آخر مشهد في حياته. والحياة لا تستحق أن تُختصر في “لعبة” قد تنتهي في العناية المركزة أو في جنازة. أطفالنا يستحقون أن يعيشوا بكرامة وسلامة، لا أن يسقطوا تحت عجلات الإهمال والتقليد الأعمى.
تعليقات ( 0 )