تتجه بوصلة الإصلاح القانوني في المغرب نحو مزيد من الوضوح في الفصل بين العمل الحزبي والوظيفة العمومية، بعد أن صادقت الحكومة على تعديلات تقضي بإدراج موظفي وزارة الداخلية ضمن الفئات الممنوعة من تأسيس أو الانخراط في الأحزاب السياسية. خطوة تشريعية جديدة، لكنها تحمل في عمقها رسالة قديمة مفادها أن حياد الإدارة ليس ترفًا قانونيًا، بل شرط أساسي لبقاء الدولة قوية ومتوازنة.
فالموظفون المنتمون إلى وزارة الداخلية، بمختلف رتبهم ومواقعهم، يشكلون العمود الفقري للإدارة الترابية، ويتولون مهام لا تحتمل التأويل ولا الانحياز، من تدبير الأمن العام إلى السهر على الانتخابات والإشراف على الجماعات المحلية. من هنا جاءت ضرورة تحصينهم من أي انتماء سياسي قد يضعف الثقة في مؤسسات الدولة أو يخلق التباسًا في حدود السلطة والمسؤولية.
هذا التعديل التشريعي لم يقتصر على أطر الداخلية فحسب، بل شمل أيضًا القضاة وأفراد القوات المسلحة الملكية وأعوان السلطة ومختلف مكونات القوات العمومية. وهي كلها فئات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسيادة الوطنية وأمن البلاد واستقرارها، مما يجعل الحياد بالنسبة إليها واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا في آن واحد.
لكن النقاش لا يتوقف عند حدود المنع، بل يمتد إلى ما هو أعمق: كيف يمكن التوفيق بين حرية المواطن الموظف في التعبير، وبين مقتضيات المرفق العمومي التي تفرض الانضباط والحياد؟ الجواب، كما يبدو من روح النصوص القانونية، يكمن في التوازن. فالقانون لا يصادر حق هؤلاء في التفكير أو التصويت، لكنه يضع حدودًا واضحة بين الرأي الشخصي والانتماء التنظيمي، حمايةً لهيبة المرفق العمومي وصونًا لمبدأ المساواة بين المواطنين.
إن إبعاد السياسة عن الإدارة لا يعني عزلها عن نبض المجتمع، بل بالعكس، هو محاولة لإعادة الاعتبار لجوهرها كمؤسسة في خدمة الجميع دون تمييز. فحين تبقى الإدارة محايدة، تبقى ثقة المواطن قائمة، وتتعزز شرعية الدولة باعتبارها المرجع الذي يقف فوق كل الاصطفافات.
بهذه الخطوة، يواصل المغرب ترسيخ اختياره في بناء دولة حديثة متوازنة، لا مكان فيها لتداخل الأدوار أو تسييس الوظائف السيادية. إنها رسالة واضحة بأن قوة الدولة تبدأ من نزاهة مؤسساتها، وأن الحياد ليس مجرد بند قانوني، بل ثقافة مؤسساتية يجب أن تتجذر في الممارسة اليومية.


تعليقات
0