محمد أولاد ملوك … حين تنطق الألوان بما يعجز عنه الكلام
✍️ هند بومديان
في حيٍّ بسيط من مدينة سلا، وداخل عوالم الألوان المتشابكة والمشاعر الصامتة، وُلدت تجربة الفنان محمد أولاد ملوك. ليس من أولئك الذين قادتهم القاعات الأكاديمية نحو ريشة الرسم، بل من أولئك النادرين الذين أنصتوا لنداء خفيّ يسكن الداخل، ولبّوه بإصرار فنيّ وصدق وجودي. فنان تشكيلي ذاتي التكوين، سلك درب المعرفة وحده، من خلال الملاحظة العميقة، والتأمل الصادق، والتجريب الحرّ، حتى صار الفن جزءًا من كيانه، لا فعلاً فقط بل هوية ومصير.
منذ اللحظة الأولى التي جذبته فيها التفاصيل الصغيرة – ظل شجرة، نظرة وجه، امتداد لون على جدار قديم – أدرك أن له عينا ثالثة ترى ما لا يُرى، وتشعر بما لا يُقال. وهكذا، بدأ يرسم ليحاور العالم، وليداوي ذاته، وليُبقي على الضوء حيًا وسط العتمة.
لا يضع محمد أولاد ملوك حدودًا بينه وبين ما يخلق. يعتبر أن الفن الحقيقي لا يقبل الأقفاص. إنه فضاءٌ شاسع، لا يعترف إلا بالصدق، ولا يمنح روحه إلا لمن آمن به كخلاص. لوحاته لا تُقرأ فقط بالبصر، بل تُلامس بالقلب. بين ضربة ريشة وأخرى، تختبئ رسائل عن الوطن، عن الإنسان، عن الوجع العابر، وعن الحلم المقاوم.
مسيرته لم تكن سهلة. واجه الإقصاء، وغياب الدعم، وصمت المؤسسات. لكنه آمن أنّ ما يُخلق من الداخل، لا يحتاج إلى اعتراف خارجي ليكون حقيقياً. حمل فنه في قلبه، وعرضه في أماكن صغيرة وكبيرة، داخل المغرب وخارجه، وتلقى أصداءً أعمق من الجوائز، كانت تعني له أن رسالته وصلت، وأن صوت الألوان قد سُمع.
أعماله ليست نسخًا بصرية لواقع متكرر، بل محاولة دائمة لالتقاط ما وراء الواقع: الإحساس، الفكرة، الارتباك، الحنين، وحتى الأسئلة. كثيرًا ما يذوب في لحظة الرسم، يتماهى مع موسيقاه، ويتحول إلى شاهد ومُرتّل في محراب الفن، تاركًا للريشة حرية أن تحكي ما سكت عنه اللسان.
محمد لا يرسم للترف، ولا للشهرة، بل ليترك في هذا العالم أثرًا صادقًا، ليقول إنه كان هنا، حاملاً اللون كما يحمل الشاعر قلمه، والناي أنينه. يحلم بمعرض دائم، مفتوح للجمهور، للأطفال والطلبة، لأنّه يرى في الفن قوة تغيير، لا نخبوية، بل مشاركة في بناء الوعي، وتحرير الروح من قيودها.
في زمن يُسابق السرعة، يختار محمد الإبطاء. يتأنى، يتأمل، ويعيد للعين دهشتها الأولى. هو ابن البادية، وابن المدينة، وابن التجربة الحرة. فنان لا يضع توقيعه فقط أسفل اللوحة، بل يتركه في ذاكرة كل من يقف أمام عمل له، ويشعر للحظة أنّ الجمال لا يزال ممكنًا، وأن الفن لا يزال صوتًا نقيًا في عالم مكتظ بالضجيج.
في النهاية، لا يسأل محمد كثيرًا عمّا قدّمه، بقدر ما يهمه سؤال آخر: هل لامس أحدهم شيئًا من ذاته في لوحته؟ فإن كانت الإجابة “نعم”، فقد اكتملت الرسالة.
تعليقات ( 0 )