بيان الجمعية المغربية لحقوق الانسان حول اليوم العالمي للصحة النفسية
مع الحدث
المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة الإنسانية التي تنهجها السلطات العمومية في حق المصابين/ت بالاضطرابات النفسية والعقلية ستبقى وصمة عار في تاريخ السياسات الصحية في بلادنا، التي تجعل من الاهتمام بالأضرحة والزوايا مفخرة عظيمة.
تحتفل منظومة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية باليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف 10 أكتوبر من كل سنة. وقد تم الاحتفال به لأول مرة سنة 1992 من طرف الاتحاد العالمي للصحة النفسية بهدف إثارة الانتباه إلى خطورة الاضطرابات النفسية والعقلية وآثارها على الحياة العادية للإنسان وعلى محيطه العائلي والأسري، وإلى ضرورة علاج ورعاية المصابين.وفي إطار اهتمامها بمجال الصحة أعلنت منظمة الصحة العالمية، أن الاحتفال بهذا اليوم من سنة 2024 سيخلده العالم تحت شعار “الصحة النفسية في مكان العمل”، بعد أن اعتبرتها في احتفالها لسنة 2023 ” حقا عالميا من حقوق الإنسان”. كما سبق لها أن وضعت “خطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013-2030 “، التي جعلت من محددات وعواقب الصحة النفسية “لا تنحصر في الاضطرابات النفسية في صفات الإنسان الفردية مثل قدرته على إدارة أفكاره وعواطفه وسلوكياته و تفاعلاته مع الآخرين، وإنما تشمل أيضا عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية وبيئية مثل السياسات الوطنية والضمان الاجتماعي ومستويات المعيشة وظروف العمل…”، في انسجام مع ما جاء في ديباجة دستورها،بكون الصحة هي “حالة من اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية وليس مجرد انعدام المرض أو العجز”.
وتشير بعض التقديرات الصادرة من المنظمة العالمية للصحة، برسم سنة 2019 أن شخصا واحدا من أصل ثمانية عبر العالم يعاني من اضطرابات نفسية، ويقدم على الانتحار شخص واحد من بين كل مائة، وأن 75% من المصابين بالاضطرابات العقلية في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط لا يستطيعون الحصول على الخدمات الصحية. كما يعاني ما بين 10 و20 % من الأطفال والمراهقين وأكثر من 20 % من البالغين من العمر 60 سنة وما فوق، في جميع أنحاء العالم، من اضطرابات نفسية وأمراض عصبية، وخاصة من الاكتئاب والخرف بالنسبة للمسنين.ويعد هذا رابع أهم سبب للانتحار بين الأشخاص البالغين بين 15 و29 سنة.
وبعيدا كل البعد عن تقديرات منظمة الصحة العالمية ومدى قدرتها على ترجمة واقعنا،فإن استفحال هذه الآفة ببلادنا، تدل عليهما تشهده شوارع مدننا وأزقة قرانا المليئة بالمشردين من المرضى الفاقدين للوعي، وهم يعيشون على الهامش، يقتاتون من القمامات ويبيتون في العراء معرضين لقسوة الطقس البارد أحيانا والحار أحيانا أخرى، وكم يموت منهم وهو تحت رحمة هذا الوضع.وتزداد وضعيتهم سوءًا حين تلجأ السلطات العمومية، في بعض المناسبات الخاصة بالزيارات أو الاحتفالات الرسمية، إلى إبعادهم عن محيطهم الأصلي، والرمي بهم في أماكن بعيدة بدون رحمة ولا شفقة.
والمثير للقلق والانشغال استمرار سياسة الوصم والتمييز واللامبالاة هذه رغم توفر تشريعات تحمي هذه الفئة، ومنها الظهير رقم295-58-1الصادر في 30 أبريل 1959 بشأن الوقاية من الأمراض العقلية ومعالجتها وحماية المصابين بها، وأحكام الدستور وخصوصا المادة 34 منه التي توجب على السلطات العمومية “معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأمهات وللأطفال والأشخاص المسنين والوقاية منها”، و”إعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقة جسدية، أو حسية حركية، أو عقلية، وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع”؛ هذا بالإضافة إلى الاتفاقيات الأممية ذات الصلة، ومنها الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي صادق عليها المغرب بتاريخ 8 أبريل 2009، والتي “تلزم الدول باعتماد مقاربة حقوق الإنسان في السياسات العمومية المتعلقة بهذه الفئة من المجتمع وباتخاذ جميع التدابير المؤسساتية والقانونية اللازمة لهذا الغرض”، و كذلك الصك الأممي العالمي المتعلق ب ” مبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي و تحسين العناية بالصحة العقلية” الذي أكد على الحق في الرعاية الصحية و الاجتماعية للأشخاص المصابين و لا يجوز ممارسة أي شكل من أشكال تمييز في حقهم أو كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف المساواة في التمتع بالحقوق… أما مشروع القانون رقم 13-73 الذي صادق عليه مجلس الحكومة في 2 يوليوز 2015، بمثابة عصرنة الظهير المشار إليه سابقا، فقد بقي مركونا في الرفوف ولم يحظ بأية مناقشة إلى يومنا هذا،لا من طرف العاملين في القطاع على قلتهم، ولا من طرف البرلمان.
ورغم أهمية التقرير الذي أنجزه المجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2012، تحت عنوان ” الصحة العقلية وحقوق الإنسان: الحاجة الملحة إلى سياسة جديدة”، والذي كشف فيه على مظاهر الاختلال والنقص في مؤسسات الطب النفسي، وعلى البنيات التحتية التي وصفها بالعتيقة وغير الملائمة، والخصاص في التجهيزات وخراب المتوفر منها، وقلة الموارد البشرية وانعدام شروط أمنها، وقصور في الخدمات المقدمة وعدم كفايتها، وغياب التكفل والحماية للمجموعات المعرضة للخطر كالأطفال والنساء و المسننين والمدمنين، وندرة المؤسسات الخاصة و الفراغ في القانون..؛.
وعلى الرغم من التقرير الذي أنجزه المجلس الاقتصادي و الاجتماعي سنة 2022 تحت عنوان “الصحة العقلية وأسباب الانتحار في المغرب”، تنفيذا لإحالة السيد رئيس الحكومة، بتاريخ 15 يوليوز 2021، والذي أكد على “ضعف استثمار الدولة في منظومة الرعاية النفسية”؛ حيث أن عدد الأسرة المخصصة لهذه الفئة تبلغ 2431 سريرا و 454 مختصا نفسانيا،واعتبر أن الصحة العقلية هي “الحلقة الأضعف في السياسات العمومية”، وأن النهوض بها “أمر أساسي من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030″…، وخلص إلى إصدار العديد من التوصيات المهمة لمعالجة الأزمة، والحد من معاناة المصابين وأسرهم التي تجد صعوبة في احتضانهم وتتأثر بوضعهم ويمتد المرض إلى الكثير منهم، وخاصة وسط الأمهات، اللواتي غالبا ما يصبن بالاكتئاب ومختلف الأمراض العصبية؛
فإن الأوضاع تزداد تفاقما سنة بعد أخرى وما توفره شوارع وأزقة المدن والقرى من معطيات تنطق بحال أوضاعنا في مجال الحق في الصحة البدنية والعقلية.فقد ضاقت ذرعا بعدد المشردين/ات، الذين يعانون من الاضطرابات العقلية/النفسية، وتشهد، بما لا يحتاج الى كثير من الجهد، على خطورة الوضع وعلى انعدام الوقاية والرعاية. كما أن الطريقة التي تلجأ إليها السلطات العمومية للتخلص منهم في سبيل تزيين الواجهة بالمساحيق الزائفة، ستبقى وصمة عار في تاريخ انتهاك الحق في الصحة العقلية والنفسية في بلادنا وستظل علامة إثبات على الجرائم التي تستحق المساءلة وعدم الإفلات من العقاب تماما؛ كما سيبقى بويا عمر راسخا في ذاكرة المغاربة، شاهدا على سياسة التعذيب والمعاملات المهينة والحاطة بالكرامة الإنسانية. ومقابل هذا الوضع المأساوي لوزارة الصحة نجد أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تفتخر وتتباهى بكون بلادنا تتوفر على 7090 زاوية وضريحا؛ مما يدل على أن الدولة تقر بالإهمال واللامبالاة وترعى بوعي، بدون حشمة ولا خجل، ثقافة الشعوذة والخرافة التي تعود الى القرون الوسطى.
وبناء عليه وبمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية فإن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تعلن ما يلي:
1- دعوتها السلطات العمومية إلى الكف عن خطابات تزيين الواجهة وبالوفاء والعناية:
– بمضامين التقارير التي تنجزها المؤسسات التابعة لها وبالرسائل التي تتلقاها من المجتمع المدني، ومنها الرسالة التي وجهتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى وزير الصحة بنفس المناسبة من سنة 2023؛
– بما تتعهد به من خطط وبرامج، كما هو الشأن بالنسبة لخطة العمل الوطنية للديمقراطية وحقوق الإنسان، 2018-2021، التي جاء فيها 22 تدبيرا لتحقيق الأهداف الخاصة بتأهيل المنظومة الصحية وضمان الولوج الى الخدمات الصحية، بشكل متساو ومتكافئ ومستدام، وكفالة التوزيع المجالي العادل للخدمات الصحية والتجهيزات الطبية والموارد البشرية…؛
– وبما توقعه وتصادق عليه من اتفاقيات أممية في مجال حقوق الإنسان، والالتزام بالتعامل الجدي والمسؤول مع الآليات الأممية التعاقدية والمساطر الخاصة.
2- مطالبتها الدولة باتخاذ إجراءات مستعجلة لإيجاد حل لمرضى الاضطرابات النفسية المشردون/ات في شوارع وأزقة المدن والقرى، والكف عن نقلهم بعيدا عن محيطهم وبيئتهم، والعمل على ما يضمن حقهم في العلاج والحماية والوقاية، وفق ما ينص عليه الدستور والاتفاقيات الأممية ذات الصلة وتعزيز حقوقهم وحمايتها استنادا إلى تقرير المقرر الخاص بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحية البدنية والعقلية، الذي تم عرضه على مجلس حقوق الإنسان في دورته الخامسة والثلاثون، المنعقدة في يونيو 2017؛
3- استنكارها للاستمرار في سياسة هدر الموارد في رعاية الفكر الخرافي وتشجيع الشعوذة، عوض الاستثمار في الصحة والتعليم بما يناسب العصر الذي نعيش فيه، وبما يستشرف المستقبل لتحقيق التنمية المستدامة ويحفظ كرامة أجيال بلادنا بين الأمم التي تتسابق نحو النهوض بالحقوق والحريات.
المكتب المركزي،
الرباط بتاريخ 10 أكتوبر 2024.
شارك هذا المحتوى:
إرسال التعليق