بقلم : عبدالقادر العفسي
لا شيء أكثر خداعًا من خطابٍ يرفع شعاراتٍ براقة بينما الواقع ينهار تحت وطأة الزيف، الندوة الوطنية للجهوية المتقدمة التي انعقدت مؤخرا بطنجة، ليست إلا تجسيدًا آخر لمفارقة مأساوية تعيشها البلاد: دولة تتغنى بالجهوية المتقدمة بينما تفرغ مؤسساتها التمثيلية من أي مضمون، وتروج لفكرة التدبير الحر للجماعات في وقتٍ تحولت فيه هذه الأخيرة إلى مجرد ديكور أكثر هشاشة مما كان عليه الوضع حتى في أحلك سنوات السلطوية ! أن الخطر كل الخطر على دولة تدّعي الحداثة والديمقراطية من أن يتحول مشروعها التنموي إلى واجهة خطابية تخفي وراءها تآكلًا ممنهجًا لبُنية الدولة نفسها ، حيث لم تعد المسألة مقتصرة على تفريغ المؤسسات المنتخبة من محتواها، بل تجاوزتها إلى انخراط “كبار الدولة” أنفسهم في شبكات الفساد السياسي والاقتصادي التي تجعل من “الجهوية المتقدمة” مجرد أكذوبة كبرى، ومن التدبير الترابي سوقًا مفتوحًا لإعادة توزيع الثروة داخل دوائر مغلقة من المنتفعين .
إن الحديث عن “الجهوية المتقدمة” في المغرب اليوم هو أقرب إلى المزايدة الخطابية منه إلى مشروع سياسي حقيقي، فما معنى الحديث عن مجالس جماعية تُفترض فيها الاستقلالية، بينما تحولت إلى هياكل شكلية لا سلطة لها ولا قدرة على القرار؟ كيف يمكن الحديث عن تدبير حر للجماعات، في حين أن الفعل السياسي داخلها مُكبّلٌ بشبكة من الولاءات والمصالح التي حولت الفاعلين السياسيين إلى مجرد وسطاء بين السلطة والنافذين الاقتصاديين؟ بمعنى اخر ، المجالس الجماعية، التي كان يُفترض أن تكون محركًا للتنمية المحلية، لم تعد سوى ديكور سياسي يُستخدم لإضفاء شرعية على عملية إعادة إنتاج السلطة والثروة بين أيدٍ محددة ، فلم يشهد المغرب في تاريخه، حتى في أحلك فترات السلطوية، مجالس بهذا القدر من التفريغ والإضعاف، حيث أصبح المنتخبون المحليون مجرد وسطاء بين السلطة والمصالح الاقتصادية الكبرى، بلا قدرة على القرار أو المبادرة، هذا ليس مجرد نكوص سياسي، بل هو انهيار لبنية الفعل السياسي نفسه، حيث تحولت السياسة إلى وسيلة لإثراء أقلية واستبعاد الأغلبية .
إن هذه الردة الديمقراطية لا تقتصر على تفريغ المجالس الجماعية من سلطتها، بل تمتد إلى ضرب فكرة التنافس السياسي في العمق، فما معنى التنافس السياسي إذا كان الأمر لا يعدو أن يكون إعادة توزيع مقاعد على فاعلين محددين سلفًا وفق ترتيبات تضمن استمرار نفس شبكات المصالح؟ السياسة، بهذا الشكل، لم تعد مجالًا للتدافع الفكري ولا للتفاوض حول خيارات التنمية، بل تحولت إلى مسرح عبثي تكرّس فيه الهيمنة عبر انتخابات صورية تُضفي شرعية على وضعٍ مختل .
الأخطر من ذلك، أن هذا الوضع لم يعد محصورًا في المنتخبين المحليين فقط، بل إن “كبار الدولة” أنفسهم أصبحوا فاعلين أساسيين في هذه الشبكة، فلم يعد السياسيون وحدهم هم من يستفيدون من منظومة الفساد، بل باتت هناك تحالفات بين كبار المسؤولين، ورجال المال، والنافذين داخل الإدارة، بحيث أصبحت الدولة العميقة مقاولًا سياسيًا واقتصاديًا، تحكم وتتحكم، وتُعيد رسم خارطة المصالح بما يخدم استمرارها ، إن هذا الوضع لم يعد مجرد أزمة سياسية داخلية، بل أصبح معطى اقتصاديًا وماليًا متشابكًا بأبعاد دولية، فقد تحوّل تدبير التراب المحلي إلى مجال استثماري مربح لمجموعة من “الكبار” الذين صعدوا في سلم الثراء، حتى باتت ثرواتهم تتجاوز حدود البلاد إلى حسابات مترامية بين إسبانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة…إذ كيف يمكن تفسير هذه الطفرة المالية المهولة التي جعلت بعض كبار موظفي الدولة و المنتخبين يتحولون إلى مليونيرات ومليارديرات في ظرف سنوات قليلة، بينما تظل الجماعات التي يفترض أنهم يديرونها غارقة في الديون، والبنية التحتية مهترئة، والخدمات العمومية في حالة يُرثى لها؟
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد خلل في الممارسة الديمقراطية، بل هو تدمير ممنهج لفكرة السياسة نفسها، فالسياسة في أصلها صراعٌ حول الخيارات، تنافسٌ حول البرامج، وتفاوضٌ حول المستقبل، أما حين تتحول إلى مجرد آلية لإعادة تدوير نفس النخب الاقتصادية والسياسية، وحين تفقد المؤسسات المنتخبة دورها في إنتاج القرار، يصبح الأمر أقرب إلى لعبة مغلقة بين عدد محدود من الفاعلين، حيث لا مكان للمواطن إلا بصفته مشاهدًا أو مُستَغَلًا في لحظات انتخابية شكلية ، و المفارقة هنا أن هذه الدينامية لم تعد تُدار بشكل سري، بل أصبحت مكشوفة لدرجة أن المواطنين فقدوا أي ثقة في المؤسسات، لم يعد هناك وهم حول وجود منافسة سياسية حقيقية، أو صراع بين مشاريع تنموية، لأن الجميع بات يدرك أن الأمر لا يعدو أن يكون إعادة توزيع للريع وفق توازنات محددة سلفًا .
قد يُقال إن هذا الطرح متشائم أو سوداوي، لكنه للأسف مجرد انعكاس لما يعيشه المغرب اليوم ، فالدولة التي تُراكم الشعارات حول الجهوية المتقدمة، والتدبير الحر، واللاتمركز…(الخ) تجد نفسها أمام واقع مناقض تمامًا: تفريغ المؤسسات من معناها، احتكار القرار في دوائر ضيقة، وتحويل الفعل السياسي إلى مجرد وسيلة لإعادة إنتاج السلطة والثروة داخل نفس الدوائر المغلقة ، لكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هنا: إلى متى يمكن أن يستمر هذا النموذج دون أن ينهار؟ إن الدول التي استمرت في إدارة السياسة كمنظومة للنهب المنظم انتهت إلى الانفجار، لأن الفساد حين يصل إلى هذا المستوى لا يبقى مجرد خلل في التدبير، بل يتحول إلى أزمة وجودية للدولة نفسها .
إذا كان لهذه الندوة ومثيلتها أن تحمل أي معنى، فهو أنها تؤكد أن ما يُطرح اليوم باسم الجهوية المتقدمة ليس سوى واجهة خطابية، بينما الواقع يسير في اتجاه أكثر انغلاقًا وأكثر تكريسًا لمنطق الهيمنة، ومع ذلك، فإن السؤال الكبير الذي يظل معلقًا هو: إلى متى يمكن الاستمرار في هذا النهج دون أن ينفجر التناقض بين الخطاب والممارسة؟ وهل يمكن حقًا بناء دولة حديثة، تنموية، ومتوازنة، في ظل استمرار نفس قواعد اللعبة؟
قد يظن البعض أن القبضة المحكمة على مراكز القرار تمنع أي تغيير، لكن التاريخ علّمنا أن الأنظمة التي تُفرغ السياسة من معناها، وتُحوّل المؤسسات إلى أدوات للفساد، وتدفع النخب إلى الارتماء في أحضان شبكات الريع، إنما تزرع بذور انهيارها بيدها، قد يتأخر هذا الانهيار، لكنه يظل مسألة وقت لا أكثر ! .
Share this content:
Post Comment