“نوستالجيا 2025”.. حين يستعيد المسرح ذاكرة الروح بروح فنية جديدة

بقلم ذ.حسيك يوسف
عندما يلتقي الحنين الصادق بفن مسرحي ناضج، تكون النتيجة لحظة مسرحية نادرة من حجم “نوستالجيا 2025″، عمل استثنائي استطاع أن يُوقظ الذاكرة، ويمنح المسرح المغربي دفقة جديدة من الحياة، ويدعو الجمهور إلى التأمل في الذات، والعودة إلى تلك اللحظات التأسيسية التي شكّلت وعينا الجمعي وهويتنا الثقافية والاجتماعية.


جاء العرض في إطار استثنائي وتحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، وهو ما أضفى عليه هالة من الاهتمام الوطني، وزخماً ثقافياً يليق بتاريخه ومضمونه.


ما ميّز هذا العمل المسرحي ليس فقط موضوعه الأخّاذ الذي استدعى الماضي بروح معاصرة، بل أيضًا طريقة تقديمه المتقنة، التي جمعت بين البساطة الجمالية والعمق الرمزي. لقد كان “نوستالجيا” دعوة مفتوحة إلى السفر عبر الزمن، لا بغرض الحنين العاطفي فقط، بل كمحاولة لفهم الذات وتفكيك الأسئلة القديمة والجديدة التي يسكننا صداها.


الرؤية الإخراجية حملت توقيع المبدع أمين ناسور، الذي أكّد مرة أخرى أنه لا يصنع الفرجة لمجرد الفرجة، بل يعتبر المسرح أداة فكرية وإنسانية عميقة. عبر نسجه لعرض بصري وشعري، أبان ناسور عن وعي مسرحي حداثي، يمزج بين الرمزية والواقعية، وبين الحكمة الفنية والجرأة الإبداعية.


وفي قلب هذا العمل، تألقت الفنانة فاطمة الزهراء أحرار، فراشة المسرح المغربي، في دور “تيفيوين”، الشخصية الأمازيغية التي جسدتها بحضور آسر، يفيض شعراً وصدقاً. لم تكن أحرار تؤدي دوراً عادياً، بل كانت تعيش الشخصية وتسكب فيها من قلبها الفني وروحها المسرحية، ما جعلها تتجاوز حدود الأداء إلى مرتبة التعبير الصادق. حضورها لم يكن مجرد تمثيل، بل تجلٍّ حقيقي لأنوثة راسخة، وهوية مقاومة، وذاكرة تتكلّم.
الطاقم التمثيلي بدوره لم يكن أقل تألقًا، فقد قدم كل فنان أداءً منسجماً مفعماً بالصدق والالتزام، بأسلوب جماعي متناغم يشي بمستوى عالٍ من التدريب والحس المسرحي. كل شخصية حملت عمقها الخاص، وتفاعلت مع العرض بروح فنية عالية.


أما الجانب التقني، فقد اشتغل في صمت لكنه أضاء العرض بكل ما في الكلمة من معنى. من الإضاءة إلى الملابس (بتصميم أنور الزهراوي ورفاقه)، إلى المؤثرات البصرية والصوتية، إلى السينوغرافيا… كان كل تفصيل مرسوماً بعناية، يخدم النص والحدث والرسالة.
ولا يمكن إغفال البصمة الإبداعية التي قدمها المنتج والمخرج نورالدين دوڭنة، الذي دعم العمل من خلف الستار، فكان جزءًا أصيلًا من هذه التجربة، إلى جانب الأسماء اللامعة الأخرى مثل فريد الرگراگي وعشيق، وغيرهم من العناصر الإدارية والتقنية التي اشتغلت بتفانٍ وانضباط.


“نوستالجيا 2025” ليست مجرد مسرحية ناجحة، بل هي علامة مسرحية فارقة تستحق أن تُدرس وتُشاهد أكثر من مرة. لقد أعادت الاعتبار للمسرح بوصفه فعلاً حياتياً، لا يتقاطع فقط مع الذكرى، بل يتصل بوجدان الأمة.
ما عشناه خلال هذا العرض كان لحظة صفاء فني وامتنان صادق للفن والمسرح، ولتلك الأسماء التي لا تزال تؤمن بأن المسرح رسالة، وأن الخشبة ليست أرضاً للعرض فقط، بل فضاء للبوح، وللتأمل، وللثورة أيضاً.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)