مع الحدث
تحرير ✍️: ذ لحبيب مسكر
من أعماق جبال الأطلس وتحديدًامن مناطق آيت بوحدو وشقير، خرجت أكلة “تاحريشت” لتغزو بطقوسها وروائحها الشهية موائد الأمازيغ في إقليم خنيفرة والمناطق المجاورة، قبل أن تتحول إلى رمز تراثي شعبي، يقف جنبًا إلى جنب مع الطنجية المراكشية في الذاكرة الذوقية المغربية.
ارتبطت “تاحريشت” منذ القدم بالمناسبات الكبرى، وعلى رأسها عيد الأضحى، حين تُستخرج أحشاء الأضحية وتُحضّر بعناية، لتصبح طبقًا مميزًا لا يُقاوم. وهي اليوم، في خنيفرة ونواحيها، لم تعد مجرد وجبة تقليدية، بل أصبحت جزءًا من الهوية المحلية، تُطلب بشغف وتُباع بسرعة، خاصة في مواسم الأعياد والعطل.
وصفة من نار… بنكهة الأطلس
تحضّر “تاحريشت” بأسلوب فريد يجمع بين البساطة والإبداع الشعبي، إذ تُلف شرائح من الرئة، الكرشة، الكبد، الشحم وغيرها من مكونات “الضوارة” على قضيب حديدي طويل، ثم تغلف جيدًا بـالمصارن، قبل أن تُشوى ببطء على نار هادئة من الفحم، ما يمنحها نكهة مشوية فريدة تجعل المتذوق يطلب المزيد.
وتُراعى في تحضيرها الشروط الصحية، إذ تتم مراقبة مكوناتها في المجازر من طرف الأطباء البيطريين، وتخضع لمتابعة يومية من طرف مصالح السلامة الغذائية، مما يرفع من ثقة المستهلك في جودة الطبق.
بين الإقبال الشعبي وارتفاع الأسعار
رغم الإقبال الكبير على هذه الأكلة، إلا أن ارتفاع أسعار اللحوم شكل تحديًا حقيقيًا لممتهني هذا الصنف من الأطعمة التقليدية. فقد اضطر عدد منهم إلى التخلي عن المهنة بسبب غلاء المواد الأولية، وصعوبة رفع الأسعار على الزبناء الذين لا تسمح لهم قدرتهم الشرائية بمجاراة الزيادات.
ويؤكد أحد الباعة أن الطلب على “تاحريشت” ما يزال قويًا، بل إن الزبناء يتوافدون في ساعات المسائية الأولى من أجل الحصول على حصتهم، إلا أن الهوامش الربحية الضئيلة والضغط الاقتصادي قد تدفع بهذه الأكلة إلى الاندثار إذا لم يتم دعمها وتنظيم تسويقها بالشكل المناسب.
تراث في حاجة إلى الاعتراف والدعم
ومع أن “تاحريشت” ما تزال حاضرة بقوة في خنيفرة والمناطق الجبلية المجاورة، إلا أن أصواتًا بدأت ترتفع مطالبة بـتثمين هذا التراث الغذائي، عبر تسويقه في مناطق أخرى من المملكة، وتنظيم مهرجانات للتعريف به، بل ودعمه كمنتوج محلي يندرج ضمن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
في النهاية تبقى “تاحريشت” أكثر من مجرد طبق… إنها حكاية نار وذوق وهوية، تستحق الحفظ والترويج، في وقت تُهدد فيه عواصف الغلاء والأزمات الاقتصادية العديد من جوانب تراثنا اللامادي.
تعليقات ( 0 )