وجد الاقتصاد الفرنسي نفسه سنة 2020 أمام تحديات كبيرة، فبالإضافة إلى تأثيرات جائحة كورونا تعرضت السلع الفرنسية إلى حملة مقاطعة كبيرة، خرجت من العالم الافتراضي إلى الواقع، بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعمة لرسوم مجلة “شارلي إيبدو” المسيئة لنبي الإسلام محمد.
ويُعول الاقتصاد الفرنسي على الاستثمارات الخارجية، إذ إن فرنسا هي خامس مُصدر للسلع في السوق العالمي، وتصل نسبة صادراتها إلى 3.1% من الإنتاج الداخلي، كما أنها الأولى أوروبياً، والسابعة عالمياً في الاستثمار الخارجي المباشر، وذلك لضبط توازن ميزانها التجاري وسد العجز ومنع الخلل.
وتصدر فرنسا، حسب موقع وزارة الاقتصاد والمالية كل ما يتعلق بصناعة الطيران، والمستلزمات الطبية، والنسيج والملابس، ومواد العطور والتجميل، بالإضافة إلى الأزياء، والإلكترونيات، والسيارات، والمشروبات.
تعرضت المنتجات الفرنسية إلى حملة مقاطعة كبيرة في عدد من الدول العربية والإسلامية، منها تركيا، التي تبنَّى رئيسها رجب طيب أردوغان بشكل مباشر حملة المقاطعة، الأمر الذي أثر بشكل كبير على الاقتصاد الفرنسي، خصوصاً أن عدداً من الشركات الفرنسية تُصدر نسبة مهمة من أرباحها في الخارج، وتركيا تعد أول بلد إسلامي قبل الجزائر والمغرب المستوردة للسلع الفرنسية.
في السياق ذاته، أعلن اتحاد الجمعيات التعاونية الاستهلاكية بالكويت مقاطعة المنتجات الفرنسية، بسبب ما اعتبره إساءة فرنسية للنبي محمد، كما أن السعودية وهي أكبر اقتصاد عربي، انتشر فيها وسم يدعو لمقاطعة سلسلة متاجر “كارفور” الفرنسية.
وشملت حملة المقاطعة منتجات الاستهلاك اليومي، خاصة المواد الغذائية ومواد التجميل، رغم أن فرنسا تعتمد بشكل كبير على التصدير غير المباشر، وذلك بـ”الصنع المحلي” في البلدان الخارجية، نظراً لتوفر اليد العاملة بأثمان رخيصة عكس اليد العاملة الفرنسية.
وكشف علي العمراني، باحث اقتصادي مغربي في تصريح ، أن “حملة المقاطعة التي تخضع لها السلع الفرنسية لم تنتهِ بعد، وهناك بعض الدول التي تطبقها بشكل فعلي، كالكويت مثلاً وقطر، مقابل ذلك هناك مواطنون اتخذوا قرار عدم شراء السلع الفرنسية، وهذا الأمر ليس بالهين“.
وأضاف المتحدث أن “حملة المقاطعة للسلع الفرنسية لن يكون لها تأثير آني، ولكن سيكون على المدى القريب أو المتوسط، خصوصاً أن هناك سوقاً تنافسية كبيرة في السلع الموجهة للاستهلاك اليومي والسيارات أيضاً، نظراً لوجود سوق بديل، محلياً أو إقليمياً“.
ورغم مرور شهر كامل على إطلاق حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية على مواقع التواصل، فإنه مازال وسم (مقاطعة المنتجات الفرنسية) يعتلي قائمة الوسوم الأكثر تداولاً في عدد من الدول العربية التي أعلن فيها عن انطلاق الحملة.
تصعيد فرنسي
وأمام حملة المقاطعة هذه اختارت فرنسا أن تتجه إلى خطاب التصعيد بإعلانها عدم التراجع، كما أن حملات المقاطعة والتظاهر في البلدان هي قادمة من “أقلية راديكالية” فقط، ولا ينهجها الجميع.
وكان الرئيس الفرنسي قد كتب تغريدة على حسابه في تويتر في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2020، قال فيها باللغة العربية “لا شيء يجعلنا نتراجع أبداً، نحترم كل أوجه الاختلاف بروح السلام، لا نقبل أبداً خطاب الحقد وندافع عن النقاش العقلاني، سنقف دوماً إلى جانب كرامة الإنسان والقيم العالمية“.
من جهتها أصدرت الخارجية الفرنسية بياناً تقول فيه إن “الدعوات إلى المقاطعة عبثية ويجب أن تتوقف فوراً، وكذلك كل الهجمات التي تتعرض لها بلادنا والتي تقف وراءها أقلية راديكالية“.
وأضافت الخارجية الفرنسية “في العديد من دول الشرق الأوسط برزت في الأيام الأخيرة دعوات إلى مقاطعة السلع الفرنسية، وخصوصاً الزراعية والغذائية، إضافة إلى دعوات أكثر شمولاً للتظاهر ضد فرنسا، في عبارات تنطوي أحياناً على كراهية نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي“.
وتتخوف فرنسا من السيناريو الدنماركي بعد حملة المقاطعة للسلع الدنماركية، التي خسرت في وقتها، وبحسب إحصاءات نشرتها الحكومة الدنماركية أكثر من 170 مليون دولار، وتراجع حركة الصادرات نحو 15%، إضافة لفقدان نحو 11 ألفاً لوظائفهم.
وتعود أزمة الدنمارك إلى سنة 2005، إذ نشرت جريدة دنماركية صغيرة تسمى “يلاندس-بوستن” صورة مسيئة لنبي الإسلام محمد، الأمر الذي أثر على الاقتصاد الدنماركي بشكل كبير، بسبب حملة المقاطعة التي مست كل المنتجات الدنماركية في العالم الإسلامي.
يقول علي العمراني إن “حملة المقاطعة أثرت ولو بشكل متوسط على الاقتصاد الفرنسي، خصوصاً أن العالم بأكمله يمر الآن بأزمات اقتصادية بسبب انتشار وباء كورونا، كما أن حكومة فرنسية، سواء الحالية أو القادمة، في عهد ماكرون أو غيره، ستضطر للاعتذار الرسمي عن الإساءات للمسلمين“.
واعتبر العمراني أن “الاقتصاد الفرنسي تربطه علاقة دائماً مع دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط والخليج، وهي الدول نفسها التي انطلقت منها نداءات المقاطعة، سواء من طرف رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أو من طرف شخصيات إسلامية بنفسها، أرادت الضغط على فرنسا بالشق الاقتصادي“.
وأضاف المتحدث أن “اعتذار فرنسا عن تصريحات ماكرون قادم، والمؤشر عليه تصريح وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشلو، التي دعت إلى “التهدئة”، موضحة أن “فرنسا لا تعادي مسلمي فرنسا، بل تحارب الإسلام المتطرف والإرهاب فقط“.
وأشار المتحدث أن “الرئيس الفرنسي اعتذر بشكل غير مباشر عن تصريحاته، وقال في تصريح حصري لموقع الجزيرة إن كلماته حُرفت وأُخرجت عن معناها الحقيقي، وأنه لا مشكلة لديه مع الإسلام، ومقاطعة منتجات بلده أمر غير لائق“.
تأثير المقاطعة
كشف تقرير رسمي لوزارة الاقتصاد الفرنسية أن “سوق السيارات الفرنسي يتجه للانخفاض إلى أدنى مستوى له منذ عام 1975″، كما أن تسويق مواد التجميل تراجع بنسبة كبيرة مقارنة بسنة 2019، وأرجعت الأمر إلى انتشار فيروس كورونا.
وبلغت صادرات فرنسا بلغت صادرات فرنسا إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو 41 مليار يورو سنة 2019، أي ما يعادل 7.4% من إجمالي صادراتها، واحتلت فيها تركيا المرتبة الأولى بنسبة 6.7% من إجمالي الصادرات، بعدها الجزائر والمغرب وقطر ثم تونس، والسعودية، والإمارات، ومصر.
يقول الدكتور أحمد زادي، أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء “إن حملة المقاطعة لا يمكن أن تظهر أرقامها الآن، لكن بالتأكيد أن الاقتصاد الفرنسي سيتضرر ولن يعترف بذلك، وسيختار أن يعلق شماعة التراجع على وباء كورونا“.
وفسر الباحث الاقتصادي أن “الدول الغربية أصبحت تتخذ مسافة من التصريحات التي من شأنها أن تُشعل فتيل الجدل بين الغرب والمسلمين، تفادياً لأي مشاكل اقتصادية، ويجب الاعتراف اليوم أن المقاطعات ليست بالسهلة، وإذا تطور الأمر مثلما حصل مع الدنمارك فإن فرنسا يقيناً ستتضرر“.
Share this content:
إرسال التعليق