الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهن للدكتور محمد ايت لعميم

أبريل12,2024
IMG 20240412 WA0044

 

متابعة براهيم افندي

 

قليلة هي الدراسات النقدية التي حاولت تطوير آليات وأدوات البحث حول الخصوصيات المهيمنة في قصيدة النثر ضمن تاريخ الشعرية العربية ، ومن بين هذه القلة القيمة الدراسة التي أنجزها الباحث والناقد محمد ايت لعميم والموسومة ب ” الانساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة ” .

وفي الحقيقة جذبتني هذه الدراسة التي أمدني بنسخة منها الدكتور محمد ايت لعميم مشكورا وحرصت على قراءتها والاستمتاع بها لسببين : أولهما معرفتي بالمؤلف التي تعود إلى أيام الطفولة ،وزمالة الدراسة، والذي عهدت فيه الجدية والحرص على الانجاز المتميز في كل أعماله النقدية بدءا من باكورة أبحاثه “بورخيس أسطورة الأدب” الذي صدر سنة 2006 ، ومرورا بطبيعة الحال بأيقونة مؤلفاته “المتنبي : الروح القلقة والترحال الأبدي” الصادر سنة 2010 ، و كتاب القراءة”، و”بورخيس صانع المتاهات”،vous و”قصيدة النثر في مديح اللبس”، و ” المترجم كاتب الظل” الصادر عام 2020 ، و”كاتبٌ لا يستيقظ من الكتب”، وغيرها من الكتب والدراسات والمقالات والترجمات. وثانيهما موضوع هذه الدراسة ، التي صدرت اخيرا عن دار «أكورا» بطنجة، «الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة” و التي اعتبرها إضافة نوعية ورؤية نقدية جديدة لقصيدة النثر ، وغوص في المشترك الإنساني والإبداعي الذي ربط بين رواد هذا النوع من الشعر في المشرق العربي وفي المغرب.

وكتاب الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة ” جاء منسجما مع اهتمامات وانشغالات الدكتور محمد ايت لعميم بالمتغيرات والتطورات التي عرفها الشعر العربي والتي شملت البناء أو الشكل والمضمون والرؤية..

دبج المؤلف كتابه باستهلال الحديث عن التحولات والتجاذبات التي عرفها الشعر العربي في الزمن المعاصر ، والتي دفعت الشعرية العربية إلى اختيار شكل جديد بغية تجريب نمط اخر من القول الشعري حاول الانعتاق من ثقل الاكراهات التي كانت تكبل مغامرة الكتابة، وايضا الابتعاد عن الطرق المألوفة التي اعتراها التكرار والاجترار على مستوى البناء المعماري للقصيدة وعلى مستوى الصورة الشعرية بكل مكوناتها، حيث أصبح الشاعر المعاصر يميل الى التحقق من اعباء النمطية والقول المطروق ، رافعا تحديا جديدا للمغامرة الشعرية ، تسعى إلى الإمساك بتموجات الروح وبناء تصورات جديدة حول الذات و العالم والأشياء.

وهذه الدراسة يؤكد الدكتور محمد ايت لعميم تم انجازها حول شعراء ينتمون إلى هذه التجربة الشعرية الجديدة ، بنصوص من حساسيات مختلفة، محاولا بذلك ابراز التنوع داخل الوحدة، ووحدة الموضوع داخل كثرة النصوص لاجيال متباعدة في الزمن والجغرافيا ، والوقوف على بصمة كل شاعر على حدة من خلال هواجسه الخاصة، وهمومه الذاتية ووجهات نظره حول الوجود والعالم من حوله.

لقد كان الارتهان الى النصوص الشعرية يدخل في إطار الانصات الى التجارب في فرادتها، بغية الإمساك بالخيوط الناظمة لكل تجربة على حدة في أفق بناء تيمة شعرية بصمت هذه التجارب انها موضوعة “العبور والاغتراب”.

العبور والاغتراب يؤكد أيت لعميم كان سؤالا مهيمنا في تجربة قصيدة النثر العربية ، اذ العبور ارتبط بشعراء عرفوا حقيقة هجرة الاوطان لأسباب مختلفة وعاشوا في المنافي وفي ارض الاغتراب، حتى الذين لم يغيروا الجغرافيا عرفوا عبورا اخر باتجاه الاعماق ودواخل ذواتهم، وعاشوا قلقا وجوديا وغربة داخل الذات، بهدا المعنى يتحول العبور الى رمزية كبرى سواء كان عبورا للامكنة ام عبورا باتجاه الاغوار والمياه العميقة للذات ، وقد كانت ومخرجات هذا العبور وهي الإحساس القوي بوطاة الاغتراب.

وتقع هذه الدراسة في 193 صفحة من القطع المتوسط تحتوي على فصلين و ستة مباحث عدا المقدمة والملاحق .

لقد اشتغل الدكتور محمد ايت لعميم على متن شعري متنوع انتقاه لتحقيق ما حاول الدفاع عنه، وهو موضوعة العبور والاغتراب في قصيدة النثر، كان من الطبيعي أن يكتفي ببعض النماذج حاول من خلالها أن يوفق بين بعض التجارب البارزة في المشرق وبعض التجارب المغربية .

وقد قام الدكتور محمد ايت لعميم في المبحث الأول من الفصل الاول بتناول صوت شعري عراقي من ستينيات القرن الماضي “سركون بولص ” الذي فتح هذه القصيدة على شعريات عالمية واسهم في ترجمة نصوص قوية أسندت تجربة قصيدة النثر، فقد أعاد ترجمة كتاب النبي لجبران عن الانجليزية وترجم القصيدة الشهيرة ” عواء” لألان غيسنبورغ، و اكتسبت معه قصيدة النثر دعامة قوية حيث رسم الى جانب الشاعر السوري الماغوط خارطة طريق لهذه القصيدة .

المبحث الثاني سيف الرحبي: رأس المسافر يلوح وسط الإعصار.

واعتقد ان الباحث محمد ايت لعميم اختار هذا الشاعر العماني لأنه حقق له مطلب الاهتمام بالمكان إذ اتهمت قصيدة النثر من قبل نقاد مثل كمال ابوديب أنها تكتب خارج المكان ولا وجود لها إلا في ذهن صاحبها واعتمد ايت لعميم سيف الرحى ليدحض هذا الأمر إذ مثل المكان – الصحراء تحديدا- حضورا كبيرا في تجربته الشعرية ولم يعد ديكورا أو عنصرا من عناصر النص الأدبي وإنما الأرضية المركزية التي تتحرك في شتاتها الكائنات والمخلوقات بحيواتها المختلفة.

والمبحث الثالث تناول فيه الباحث محمد ايت لعميم الشاعر الأردني أمجد ناصر والذي تميزت تجربته الشعرية بالتصاقها بمشاعر الذات وتحولاتها، ومراقبة صارمة لاشكال الكتابة، مسنودة بطاقة نثرية لا تنضب، ورغبة ملحاحة في استنفاذ الأعماق.

في الفصل الثاني من هذه الدراسة تم استدعاء الشاعرة الإماراتية نجوم الغانم ، التي استطاعت صياغة عوالمها التخيلية مستثمرة جل الرمزيات الليلية في ازدواجيتها، وبحسها الشعري شغلت متخيلها الى حدوده القصوى كي تتجول يؤكد الباحث أيت لعميم في المسالك المتاهية لليل، وللاعماق الباطنية في الذات الشاعرة.

وفي المبحث الثاني من هذا الفصل بدت تمثيلية النص المغربي التي كانت في التصوري الشخصي مطلب ضروري خصوصا وان التجربة المغربية لاقت قبولا واستحسانا لدى مؤسسات النشر المشرقية في بيروت ومصر وسوريا فالانطولوجيا التي أنجزها مؤخرا الشاعر السوري المقيم في اليابان محمد عظيمة كان للتجربة المغربية فيها حضور قوي.

استدعى الباحث محمد ايت لعميم صوتين شعرين مغربيين من حقبة التسعينيات ومن بداية الألفية الثالثة وهما الشاعر محمود عبد الغني والشاعر طه عدنان.

ومحمود عبد الغني صوت شعري تسعيني صنع صوته الشخصي من خلال انفتاحه المبكر على رواد قصيدة النثر وقراءاته في مدونة الشعر العربي والاوروبي والنصوص النثرية، وقصائده كما يبرز الباحث محمد ايت لعميم مسكونة بالحياة وبالهواجس وبالرؤى الكابوسية والكتب والورود وبالطبعة والتطلع الى الاعالي والسماء.

بعد ذلك تناول الباحث تجربة الشاعر طه عدنان المؤطرة زمنيا ببداية الألفية الثالثة ، و التي ارتكزت على أسس الارتباط الوثيق بالموروث الشعري القديم، وهي إشارة منه على اننا لم تستنفذ بعد كل الطاقات الايحائية للمدونة الشعرية العربية ، الى جانب ذكاء هذا الشاعر في التقاط اللحظة الراهنة عبر فتح حوار شعري مع المنجزات التقنية وابراز خلفياتها والقبض على التحولات الكبرى التي احدثتها في العلاقة بين الانسان والمكان و الزمان والحياة الإفتراضية.

ويختتم المؤلف دراسته القيمة بالتأكيد على أن النصوص التي اشتغل عليها واشتبك معها استخلص منها مجموعة من الخصائص مهيمنة في قصيدة النثر: هيمنة الصورة الشعرية وتكثيف الدلالة، الاعتماد على لغة المفارقة اعتماد الضربة القاضية في نهاية القصيدة لخلق نوع من الانطباع الحاد غير المتوقع، تغريب الحياة اليومية والأشياء العادية، اكتشاف العادي والاهتمام بالتفاصيل اليومية، أنسنة الأشياء الجامدة بغية خلق إحساس بالألفة المفتقدة في الحياة اليومية، الحياد اللغوي والعاطفي، تقنية التكرار بغية إحداث إيقاع منضبط إضفاء الشعرية على المبتذل والهامشي اعتماد السخرية، توسيع المرجعية وتذويب التناص التركيز على المشهدية واستثمار الصور البصرية.

اما من ناحية المضمون فقد استخلص الباحث محمد ايت لعميم ان موضوعة العبور والاغتراب كانت هي المحرك لتوليد المعنى والدلالة في هذه التجارب المختلفة والمتباعدة زمنيا ، وتواتر هذه التيمة عند اجيال متعددة تدل على الوعي بشروط المرحلة، و ادراك عمق القلق الوجودي للإنسان العربي.

بقي ان أشير أن دراسة ” الانساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة، هو كتاب خليق بالقراءة الفاحصة فالغاية من كتابة هذه السطور أن تكون دافعة لقراءته فهو درة بالفعل…

اقرأ المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *