مع الحدث دريس بينهم
بعد الانفراج الذي عرفه ملف طلبة كليات الطب بالمغرب؛ والذي جاء نتيجة ضخ دماء جديدة في الوزارتين المعنيتين بالأمر بعد التعديل الحكومي الأخير، بوساطة من مؤسسة الوسيط ، جاء الدور على ملف آخر لا يقل أهمية عن الأول، فلما كان هذا الأخير يمس بصحة المواطنين فملف المحامين مع وزارة العدل ومشروع قانون المسطرة المدنية قد مس بمصالح المتقاضين وحقهم في الدفاع.
ويرجع أساس هذا الاحتقان بين وزارة العدل وجمعية هيئات المحامين بالمغرب إلى كون الوزارة لم تعتمد المقاربة التشاركية في إصدار القوانين ذات الصلة بالعدالة مع الجمعية المنظوية تحتها جميع هيئات المغرب والتي تتميز بالاستقلالية في التنظيم والهيكلة واتخاذ القرارات.
فمنذ القدم عٌرفت مهنة المحاماة بأنها مهنة نبيلة يرمز سواد بذلتها إلى الظلم السائد بينما يرمز بياض ياقتها إلى النور الذي تمثله مهمة الدفاع في إظهار الحق في استبداد الظلم، فتنص المادة الأولى من القانون رقم 28.08 المتعلق بتنظيم هذه المهنة أنها مهنة حرة مستقلة وتساعد القضاء وتساهم في تحقيق العدالة والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء.
وأمام هذه الاستقلالية التي يضمنها القانون لهذه المهنة فإن تنظيم شؤون المهنة يرجع إلى هيئة المحامين المحدثة لدى كل محكمة استئناف والتي تتمثل بالشخصية المدنية والاستقلال المالي؛ حسب المادة الرابعة من القانون المنظم لهذه المهنة، وإن كان ظهير 10 يناير 1924 لم ينص صراحة على استقلالية المحاماة إلا أنه وبعد إعلان أثينا يوم 18 يونيو 1955 الصادر عن اللجنة الدولية للحقوقيين حول سيادة القانون الذي أكد على استقلال مهنة المحاماة، عمل المشرع المغربي على الاعتراف بهذه الاستقلالية ابتداء من قانون 19.79 الذي تنظم بموجبه نقابات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة وصولا إلى قانون 28.08.
وتعتبر جمعية هيئات المحامين بالمغرب أيضا مظهرا من مظاهر الاستقلالية حيث تنضوي جميع الهيئات بالمغرب تحت هذه الجمعية من أجل “الرفع من مستوى العمل المهني ماديا وأدبيا حتى يرقى إلى مستوى سمو رسالة مهنة المحاماة ونبل أعرافها وتقاليدها، ومن أجل العمل على تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية وسيادة حكم القانون” ، فالمحامي يؤمن قبل غيره بأنه يستحيل عليه القيام بمهامه وتقديم المساعدة القانونية لموكله تحت الضغط من جهة وإن لم يكن هو أولا وأخيرا حرا ومستقلا من جهة ثانية.
فبعد تنظيم العديد من الندوات الوطنية التي خصصت لدراسة مشروع قانون رقم 03.23 المتعلق بالمسطرة المدنية -والتي شاركت وزارة العدل في تنظيم بعضها – والوقوف على العديد من المقتضيات التي اعتبرتها الجمعية غير دستورية، والإصرار الواضح على استهداف المكانة الاعتبارية لمهنة المحاماة كفاعل رئيسي في تنزيل مفاهيم العدالة في الدولة الديموقراطية حسب نفس الجمعية، وفي ظل تعنت الوزارة عن الحوار بدأت الجمعية بتنظيم حركات احتجاجية داخل المحاكم وأمام البرلمان بالإضافة إلى التوقف عن العمل يوم 23 و 24 و 25 يوليوز 2024، ثم تصعيد النضال إلى التوقف الكلي إلى إشعار آخر في اجتماع 26 أكتوبر2024.
فكان من الضروري تدخل وسيط من أجل تقريب الرؤى بين وزارة العدل وجمعية هيئات المغرب؛ وكان الدور هذه المرة على مؤسسة أخرى وهي المؤسسة التشريعية حيث تم الاجتماع الأول بين الطرفين في 09 نونبر 2024 بمقر مجلس النواب بدعوة من رئيسي لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين، وتم الاتفاق على مأسسة الحوار بين الجانبين وتشكيل لجن موضوعاتية بين الطرفين لتدارس مشاريع القوانين المطروحة وعقد أولى الاجتماعات يومه الإثنين 11 نونبر 2011.
إلا أن البلاغ الصادر يوم السبت لم يوقف الإضراب المفتوح الذي عمر لما يزيد عن أسبوع بل تريث المحامون إلى حين انعقاد اللقاء الأول اليوم الاثنين بمقر وزارة العدل والذي تم فيه تسليم مشاريع القوانين للسيد رئيس الجمعية من قبل الكاتب العام للوزارة مع تسليم هذا الأخير الملف المطلبي المتكامل والمتعلق بقانون المهنة ومشروع قانون المسطرة المدنية وملف المساعدة القضائية وملف التعاضدية العامة لهيئات المحامين…
وأرجعت الجمعية قرار توقيف الإضراب الشامل إلى التفاعل الإيجابي مع الحوار وتوفير مناخ ملائم له وتنزيل ما سيتم الاتفاق عليه في القادم من الاجتماعات التي سيتم الحسم في جدولتها الزمنية ابتداء من 15 نونبر 2024، مع إشارة بلاغ الجمعية وكذا بلاغ النقباء في الهيئات الأخرى إلى ان هذه المؤشرات الإيجابية تتمثل أساسا في تأكيد وزير العدل العني على الوضع الاعتباري لمهنة المحاماة ودورها المحوري داخل منظومة العدالة والتزامه اعتماد ما سيتفق عليه مع الجمعية.
إلا أنه وفي ظل عمل الوزارة على تحقيق دينامية تشريعية وعمل جمعية المحامين على تحصين حقوق المحامين و الحفاظ على هيبة مهنة المحاماة تبقى حقوق المرتفقين في خطر ما دام التوقف قد زاد عن أسبوع وشمل جميع الإجراءات والتي قد تكون أحدثت خسائر خصوصا في الميدان التجاري والزجري، فبهذا يخل المحامي بالتزاماته التعاقدية مع موكليه وهو اخلال عمدي وليس مجرد خطأ إهمال، وعلى هذا الأساس يمكن أن تثار مسؤوليته في هذا الإخلال.
ومن جهة أخرى يرى بعض المتتبعين أنه لا يجب استعمال حقوق المعتقلين كدروع بشرية في معركة مهنية خصوصا وأن التمديد الذي سيطال القضايا الزجرية بعدم وجود الدفاع سيكون على حساب حرية المعتقلين، وإن كانت هذه ليست معركة مهنية وفئوية بل نضالية حقوقية تهدف إلى عدم تجاوز السلطة التشريعية أعلى قانون في البلاد وهو الدستور، فأهل مكة أدرى بشعابها والمحامون أدرى بخطورة المقتضيات الجديدة في مشروع قانون المسطرة المدنية، وهم أدرى كذلك بآثار توقف مهنة الدفاع على الصعيد الوطني ومدى تأثر المصالح والحريات بهذا التوقف، فمن الضروري العمل على إنجاح عمل هذه اللجن الموضوعاتية سواء من طرف الجمعية أو الوزارة بشكل يمنع التوقف الكلي مرة أخرى وتغليب المصلحة العليا للوطن والمواطن، ومحاولة التقريب الرؤى بين الجانبين خصوصا وأن مواطن الاختلاف قليلة ولا تمس بمجموع مشروع القانون رقم 02.23، فيجب استثمار هذه المبادرة وتقوية قنوات التواصل من أجل إصدار هذا القانون بالإضافة إلى مشروع قانون المسطرة الجنائية وكذا مختلف الملفات ذات الصبغة المهنية وفق مقاربة تشاركية تعزز من الدينامية التشريعية التي تعرفها بلادنا.
حاصل على ماستر العلوم القانونية
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية اكدال
جامعة محمد الخامس الرباط -المملكة المغربية
bainahoumdriss@gmail.com
0636447778
Share this content:
إرسال التعليق