سريالية الذات ” مسيرة فنية … بروح عصامية ”
” الفنان التشكيلي نور الدين الفضلي ”
✍️ هند بومديان
في حي البرنوصي أناسي بمدينة الدار البيضاء، وُلدت موهبة تشكيلية تميّزت منذ الصغر بحسها البصري ورغبتها في التعبير عبر اللون والخط. نورالدين الفضلي، أو كما يُعرف فنيًا بـNorart، فنان عصامي ارتبط بالفن منذ الطفولة، حين كان الطفل الذي لا يُفارق قلمه، يخطّ أولى رسوماته في دفاتره المدرسية، فيراه الجميع رسامًا بالفطرة. ومنذ أن أنجز بورتريهًا للملك الراحل محمد الخامس وهو لم يتجاوز بعدُ السادسة من عمره، أيقن بداخله أنه ينتمي لعالم خاص لا يُشبه العاديين.
رغم أن مساره الأكاديمي قاده إلى التكوين في الرسم المعماري لمدة ثلاث سنوات، وتلقى تكوينًا إضافيًا في التصميم الغرافيكي والرسم الثلاثي الأبعاد، فإن تجربته الحقيقية بُنيت بجهد فردي، بين مطالعة الكتب الفنية التي كان يقتنيها من مكتبة “العلوم”، وبين زيارات متكررة للمعارض التشكيلية. تأثر بالمدرسة الإيطالية الكلاسيكية، ووجد في أعمال دافنشي ومايكل أنجلو تفاصيله الأولى، قبل أن ينفتح على التحولات الفنية من الرمزية إلى التكعيبية فالسريالية، فاختار أن يصوغ لنفسه أسلوبًا خاصًا لا يُقلّد فيه أحدًا.
تتميّز أعماله الرمزية بعمق تعبيري لا يترك للمتلقي فرصة المرور السريع، بل يدفعه لطرح الأسئلة، والتأمل، ومحاولة فكّ الرموز التي تتوارى خلف الألوان والخطوط. يشتغل على خامات مختلفة كالقماش والورق والخشب والجبص، مؤمنًا بأن لكل خامة روحًا خاصة، وعلى الفنان أن يُحاورها حتى تنطق. ولا يخفي عشقه للموسيقى أثناء لحظات الإبداع، خاصة الأنغام الكناوية، التي ترافقه في طقوسه الفنية، أو حتى الصمت، حين تكون الحاجة إلى الإصغاء للداخل أكبر من أي صوت.
كانت أولى تجاربه في العرض سنة 2008، من خلال معرض فردي تزامن مع اليوم العالمي للمسرح، لم يسبقها أي مشاركة جماعية، بل كانت مغامرة شخصية مدعومة بروح العائلة، خاصة من شقيقته. ومنذها توالت المشاركات في فضاءات ثقافية داخل الدار البيضاء والقنيطرة، من قاعات عبد الله كنون وسيدي بليوط، إلى مركب الحسني ومكتبة ليرميطاج، كما شارك في ورشات وملتقيات نظمتها جمعيات محلية، أهمها جمعية “هندا بلانكا” التي كان لها دور أساسي في تحفيز طاقاته الإبداعية.
رغم هذا النشاط، لم يستفد من أي دعم مؤسساتي، لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار. يرى أن الفن ليس مهنة ولا تجارة، بل رسالة داخلية تبدأ من الذات وتنتهي إليها. ويجد في مدينة الصويرة (موغادور) مصدرًا دائمًا للإلهام، حيث الأفق مفتوح والروح تتنفس بعيدًا عن ضغوط المدينة. أما على الصعيد الدولي، فقد شارك في معارض عن بُعد، وكانت للوحاتِه بصمة طيبة في أوروبا وكندا، وإن لم يُغادر المغرب فعليًا. وتوّجت مسيرته بعدد من التكريمات المهمة، منها درع ملتقى أحمد الشرقاوي، ودرع ملتقى محمد البوكيلي، إلى جانب شهادات من مصر ودول عربية، وتكريمات من جمعية “هندا بلانكا”.
يؤمن نورالدين الفضلي أن الفن لا يمكن أن يُختزل في أداة أو تقنية، بل هو إحساس. التكنولوجيا، بالنسبة له، وسيلة للعرض والانفتاح، لكنها لا تُعوّض لمسة الريشة. ويُدرك أن جمهور الداخل مختلف عن جمهور الخارج، سواء من حيث التفاعل أو الوعي الجمالي، وحتى داخل المغرب يختلف التلقي من فضاء ثقافي إلى آخر، وهو ما يعكس تفاوتًا في التربية الفنية، يدفعه إلى الانخراط في ورشات للأطفال لترسيخ الوعي الفني منذ الصغر.
يعتبر أن التحدي الأكبر هو محدودية الاهتمام بالفن، وصعوبة تسويق الأعمال الفنية في محيط يفتقر أحيانًا للوعي بقيمتها. مع ذلك، يحلم بعرض أعماله في أكبر المتاحف العالمية، وأن تترك لوحاته أثرًا في الأجيال القادمة. أنجز العديد من الأعمال بطلب خاص، بعضها لتكريم شخصيات ثقافية، وبعضها كهدايا رمزية ذات بُعد وجداني، لكنه يفضّل أن تُباع أعماله ويُعترف بقيمتها. أما أقرب لوحة إلى قلبه، فهي تلك التي تنبع من لحظة صفاء داخلي، حيث تتدفق الألوان دفعة واحدة كأنها تخرج من روحه مباشرة.
وحين سُئل في نهاية الحوار عمّا لو كان هناك سؤال تمنّى أن يُطرح عليه، ابتسم وأجاب: تمنيت لو سألتموني: هل للفن مكان في هذا الزمن السريع والمادي؟ وجوابي هو نعم. لأن الفن، وإن اختفى من العناوين، يظل هو الذاكرة البصرية والوجدانية للشعوب. قد تبهت الألوان على السطح، لكن الفن الحقيقي لا يفقد وهجه، لأنه ينبع من الداخل.
تعليقات ( 0 )