عبد الله بن أهنية
The relationship between educational planning and the comprehensive strategic plan
على مر العصور والسنين أثبت التاريخ حقيقة دامغة، ألا وهي أن المجتمعات والحضارات الناجحة هي تلك الأمم التي تحبك خيوط خططها الإستراتيجية وتجمعها تحت مظلة خطة موحدة شاملة تمتد لبضع سنين. وكمثال حي على ذلك، ضرب الله عز وجل مثالاً في قمة الروعة والاتقان حين عرض علينا في محكم تنزيله قصة يوسف عليه السلام مع عزيز مصر. وقد ورد عن الكاتب خالد الخاطر في مجلة الجزيرة أن يوسف عليه السلام “تنبأ بدورتين اقتصاديتين، دورة رواج تتبعها دروة ركود، ووضع الخطط المناسبة من إنفاق وتوفير لكل دروة، وإلا لهلك الناس في دورة الركود وحلت بالبلاد كارثة عظيمة؛ لأنها كانت ستتوسع في الإنفاق وتسرف في الاستهلاك مع ارتفاع الفوائض في دروة الرواج”(28/9/2020). كما أوضح الكاتب بأن السر يكمن كذلك في الملك أو العزيز حيث أن هذا الأخير كانت له في الحقيقة الإرادة السياسية، إذ أنه كان متواضعاً وواقعياً، بل كان هو من سعى إلى يوسف عليه السلام وطلب منه المشورة والحل من خلال الرؤيا التي تجلت له في منامه. وهكذا نرى بأنه سعى إلى يوسف عليه السلام صاحب الاختصاص، للاستعانة بعلمه وكفاءته ومّكنه من حل الأزمة، فهمُّ الملك الأول المصلحة العامة والحفاظ على استقرار الدولة. وهنا يمكننا القول، بل نشاطر الكاتب في ذلك، بأن المطلوب هو الكفاءة الحقيقية وبالبرهان في عملية إدارة الموارد الناضبة وغير الناضبة وحث المواطنين على عدم الإسراف والتبذير حتى فيما تمنحه الأرض والسماء دون مقابل لأنك، كما يقول الكاتب، “لا تعلم ماذا يخبئ لك المستقبل وماذا سيحدث بعد الفوائض، فلا بد من التحوط لأسوأ الاحتمالات”) المرجع السابق(.
التخطيط التربوي جزء من الخطة الشاملة:
وهكذا نرى بأن المجتمع الذي كان يعيش فيه نبي الله يوسف عليه السلام، كان في حاجة ماسة لخطة شاملة طويلة الأمد. بل عكس مفهوم الدورة الاقتصادية بحيث أصبح أول اقتصادي نعرفه استخدم تلك السياسة معاكسة، أي تقشف في دورة الرواج، وهي سياسة صعبة لأن أفراد المجتمع قد تكونت لديهم رغبة وعادة الترف والاسراف؛ لكن نبي الله يوسف عليه السلام كانت لديه قدرة عجيبة على الإقناع وتنفيذ تلك السياسة لعلمه بتبعاتها وما ستؤول إليه الأمور لاحقاً، وكما أشار إليه الكاتب خالد الخاطر فهذه السياسة قد “أصبح يدعو لها الآن بنك التسويات الدولية واقتصاديون مرموقون بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 لتجنب تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلي أثناء فترات الرواج التي تقود لأزمات لاحقا”. لذلك من المفترض أن تكون لكل مجتمع خطة شاملة تتناول جوانب عدة بما في ذلك السياسة العامة للبلاد والاقتصاد والزراعة والصناعة والطب والتعليم وغير ذلك من المجالات التي تمس جميع سبل الحياة والرفاهية لدى الفرد والجماعة. وتبعاً لذلك، فالتخطيط التربوي يعتبر جزءا لا يتجزأ من تلك الخطة الشاملة. بل إن بينه وبين التخطيط الاقتصادي والاجتماعي علاقة جدلية أو صلة دائرية، أي أن هنالك صلة تأثير وصلة تأثر متبادلين. وإذا نظرنا بتمعن في واقع الأمر، فإننا سوف نلاحظ بأن تلك الصلة هي الصلة التي ينبغي أن تقوم بين تنمية الثروة البشرية وبين تنمية الثروة الطبيعية والمادية في الوطن. وهكذا نلاحظ أيضاً بأن المفكرين والباحثين في عالم التنمية والاقتصاد يكادون يجمعون بأن البلد المتخلف اقتصاديا هو بدون شك بلد متخلف تربويا، لأن المادة أصبحت تتحكم في كل شيء والبساطة أضحت ظاهرة غريبة بين بني البشر الذين أصبحوا ضحية التباهي في أساليب العيش وسبل الحياة. وبدون شك فان العكس كذلك صحيح إذا ما كان المجتمع متواضعاً ومركزاً على غرس الفضيلة والتكافل بين الناس. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو كالتالي: ما هي مبررات التخطيط التربوي وقيامه؟ والجواب هو أن من مبررات التخطيط التربوي هو قيام ووجود التخطيط الاقتصادي وشعوره بالحاجة الماسة والأساسية لضرورة وجود الجانب أو القطاع التربوي. أضف إلى ذلك شعور وإدراك التخطيط الاقتصادي على أن التربية مردود وتوظيف مثمر لرؤوس الأموال باختلاف شعبها وقنواتها، ويمكن بإيجاز تلخيص هذه المبررات في النقط التالية:
التنمية التربوية شرط لازم وجزء لا يتجزأ من التنمية الاقتصادية.
إن المبالغ التي تتم نفقتها على التربية بجميع ميادينها لا يجب اعتبارها مجرد نفقات تستهلك لخدمة المواطنين، وإنما هي رؤوس أموال توظف وتوضع في مشروع له كل مقومات الوجود كمشروع ألا وهو مشروع التعليم وبالتالي تجني ثمارها بالأضعاف.
إذا كنا نعيش في عالم تتسارع فيه كل القوى وتسير فيه التكنولوجيا بخطى مسرعة، فمن الضروري مسايرة التربية لهذا التقدم والتغيير السريعين في ميدان التكنولوجيا والصناعة والعلم.
ضرورة استحضار قضية أساسية في هذا الشأن وهي التكامل بين مشكلات التربية وبين الحلول التي ينبغي أن تقدم لها، والتأكيد على غرس المبادئ الحسنة وإشاعة الفضيلة والسلوك الحسن والتشبث بالعقيدة والهوية الحقة.
ضرورة إيجاد وتحقيق توازن بين جوانب وعناصر النظام التربوي، وكذلك ضرورة ربط علاقات تكامل أو توازن أو انسجام بينه وبين جميع شرائح الأنظمة المحيطة به.
ومن الملاحظ أيضاً أن أهمية التخطيط التربوي تتجلى في الكم الهائل من التحديات التي تحيط به والتي لا يتحكم المجتمع بأكمله وبمختلف شرائحه في تغييرها والتي لها التأثير البالغ على التربية والتعليم في الوطن وهذه التحديات يمكن تقسيمها إلى صنفين رئيسيين (كما جاء عن أحمد توفيق حريزي): تحديات خارجية وتحديات داخلية.
التحديات الخارجية: وهي مجموع التحديات التي تواجه النظام التربوي والتي تتجلى في التزايد السكاني المتسارع، والتقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع أيضا.
التحديات الداخلية: وهي مجموع التحديات التي تواجه النظام التربوي وتتجلى في جوانب متعددة نحصرها كالتالي:
التسرب أو التساقط التربوي: ويتمثل في آلاف التلاميذ الذين لا يواصلون مراحل التعليم بسبب تعثرهم في دراستهم فيخرجون إلى الحياة في سن مبكرة بدون خبرة ولا مهارة تمكنهم من مواجهة الحياة في المجتمع بتعقيداته المتنوعة.
الفصام بين التعليم والتلقين وبين التعلم والمشاركة وبين التعليم والتربية.
انعدام التفاعل والتواصل بين كل من المعلم والمتعلم.
عزوف المدرسين أو صعوبة مواكبتهم لمستجدات الساحة التربوية والتعليمية.
العزوف عن الشعب العلمية والتقنية.( أحمد توفيق حريزي: النداء التربوي عدد 11، 2002م، ص 51)
أسس التخطيط ومرتكزاته:
إن التخطيط بشكله العام، والتخطيط التربوي على وجه الخصوص تؤطره السياسة العامة وفلسفة الحياة بكل ألوانها ومعتقداتها وتوجهاته في كل بلد، غير أن التخطيط لا يتم في التوجهات والمقومات والقيم لكل بلد. ,إذ ما نظرنا إلي أي عملية تخطيط في بلد ما، نجد بأن التخطيط، على وجه العموم، يرتكز على عناصر أساسية وضرورية نذكر منها ما يلي:
المعلومات والمعطيات الإحصائية:
قبل الخوض في صياغة أي خطة فعالة، لابد وقبل كل شيء من جمع المعلومات والقيام بالدراسات اللازمة: تتضمن هذه الأخيرة إحصائيات سكانية (عدد الذكور والإناث)، وكذلك إحصاء الموارد والإمكانات المادية والبشرية المتوفرة.
ضرورة الارتكاز على الخبرات والتجارب الإنسانية المتاحة في مجال التربية والتخطيط.
تحليل النظم: والمنظومة، كما جاء عن أحمد توفيق حريزي (المرجع السابق) هي مجموعة من العناصر اجتمعت على قاعدة معينة وهدف معين. وتحليل النظم: هي تلك المنهجية التي بموجبها يتم تفكيك المنظومات إلى عناصر أولية بهدف تحديد أنواع العلاقات التي تؤدي إلى توازنات أو اختلالات… ويكون الغرض من هذه المنهجية هو التأثير على هذه الاختلالات والتوازنات.
خلاصة:
ربما لا يسعنا الوقت للحديث عن مزايا الخطة الشاملة أو التخطيط الشامل ومدى تأثيره على كل أفراد المجتمع، لكن بإمكاننا الجزم بأن ما تعيشه بعض البلدان اليوم هي بالفعل فوضى عارمة متعددة الأسباب، لكن النتيجة تبقى واحدة، ألا وهي ضياع أفراد الأمة وهلاكها. وقد أشرنا إلى نجاعة وجود خطة شاملة محكمة ومبنية على أسس علمية ومستنبطة من أفكار ذوي الكفاءات والخبرة، وضربنا مثالاً على ذلك لما جاء به نبي الله يوسف عليه السلام من سياسة وخطة استراتيجية شاملة جنبت الدولة آفات كثيرة.
وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن أي خطة شاملة متقنة ومحبوكة لابد وأن تشمل كل مناحي الحياة بما في ذلك الاقتصاد والزراعة والصحة والتعليم وأن ترتكز على أسس علمية وقواعد دينية، وأن تكون من بنيات أفكار ذوي الكفاءة والاختصاص، وأن تنشد غرس المبادئ الحسنة والسلوك السوي وروح التسابق في فعل الخيرات والإحسان والشعور بالفخر بالانتماء لهذا الدين القيم وهذا الوطن الحبيب…
والله ولي التوفيق،،،
كاتب وباحث في مجال الشؤون التربوية والثقافية
أحد مؤسسي منصة 3B Golden Gate لتعليم اللغة الإنجليزية والتدري
ب عن بعد
https://3b2gelearn.net/
تعليقات ( 0 )