تشظي القيم بين الفكرة والمادة

طارق مرحوم
في تفسير الوجود فلسفات عدة، وآتجاهات كثيرة، غير أن الفيلسوف الألماني هيغل، تميز بفلسفته المثالية القاضية بأن الفكرة أسبق في الوجودمن المادة، بمعنى أن الأفكار بما تتضمنه من مكونات: الأخلاق، والعادات، والقوانين، والإيديولوجيا سابقة عن المادة، التي تحيل إلى الاقتصاد والأموال والشركات، فالفكرة هي المصمم لأي وضع آقتصادي مادي، في حين يرى مواطنه ومخالفه كارل ماركس،المفكر والفيلسوف الذي نظر للآشتراكية، أن المادة أسبق من الفكرة، فالوضع الاقتصادي حسب ماركس، هو الذي يفضي إلى صناعة الأفكار، فالاشتراكية بآعتبارها تصميما سياسيا واقتصاديا للمجتمع، إنما جاءت نتيجة لوضع مادي يتجلى في جشع الرأسمالية ومعاناة البلوريتاريا وآغترابها ما يجعلها تقوم بثورات تفضي إلى فكرة الشيوعية، حيث العدل واللاطبقات حسب التصور الماركسي، فالذي قاد إلى هذا الانتقال من فكرة الرأسمالية إلى الاشتراكية هو الوضع المادي، فالمادة هي المتحكمة في العقل والموجهة له، حين انتقل من فكرةالرأسماليةإلى الاشتراكية.
بعيدا عن هذا الجدل بين هيغل وماركس، يبدو أن المادة في أزمة الرسوم المسيئة للرسول عليه السلام، قد أثرت في فكرة من يرعاها بقيادة ماكرون فرنسا، فبعد أن هدد الكثير وآنخرط في مقاطعة المنتجات الفرنسية، صار ماكرون ومن حوله في حكومته، يعتمد لغة أقل تنطعا و عنادا، حيث عبر بأن جهات غير حكومية وراء الرسوم، وأنه يحترم مشاعر المسلمين، فكأن فكرة المقاطعة أثرت في مادة أي آقتصاد فرنسا، ما جعل ماكرون ينتقل من فكرة المنافح عن الرسوم بدعوى حرية التعبير إلى فكرة الانفكاك عنها وإصباغها بطابع غير رسمي، وبالتالي فهي سلوك فردي لا يعبر إلا عن صاحبه.
إن تاريخ فرنسا الاستعماري يشهد أن الوضع المادي المترف المتمثل في الرأسمالية، أفضى إلى فكرة الإمبريالية بآعتبارها حركة توسعية تبحث عن أسواق جديدة تحتضن التضخم الرأسمالي، وفي سبيل ذلك نزفت شلالات الدماء في الجزائر وتونس والمغرب وغيرها من المستعمرات، وتم رفض فكرة الحرية والاستقلال وحق الحياة والتعبير أمام جبروت المد الرأسمالي، الذي يمجد المال ويدعوه إلى إنتاج المال.
إن الوضع المادي ولد في كثير من الحقب التاريخية الأفكار و دثرها بدثار الشرعية، وبين الفكرة والمادة نسج الأفراد سلوكاتهم، فكثير من الناس يحرص على إظهار ممتلكاته وتعدادها في العلن، عله يجني فكرة الاعتراف والتبجيل، وهنا آنهارت قيمة الإنسان عندما صار يكتسبها من الأشياء، فبقدر ما يملك يحضر له النصيب الوفير من الاعتراف الاجتماعي، وصار هذا الاتجاه غالبا في مجتمعات الاستهلاك، فالمادة وآمتلاكها هو المؤسس للشرعية الاجتماعية، وبهذا فإن الإنسان لا قيمة له إلابالأشياء التي تلفه وتحيط به، فالمادة هي الرافعة الخافضة للفرد، ما حدا بكثير من الفقراء إلى تصنع الغنى، وصناعة جمل الامتلاك، وهم غرقى في درك الديون، متلبسين بالحاجة والخصاصة، لكنهم أظهروا غطرسة المترف، فتحول المعوز إلى عائل متكبر، وأمام هذا الانهيار القيمي، الذي جعلنا أمام حضارة الأشياء المستبدة بقيمة الإنسان، يحضر بيير بورديو وهو عالم آجتماع فرنسي، بمصطلح جديد، أدخل مفهوم الغنى إلى حيز الفكرة، عندما أطلق مصطلح: الرأسمال الثقافي، حيث يتحدث بورديو عن ميزة أخرى تتمتع بها البورجوازية، فبعد أن توارثت رأسمالا ماديا، فهي تتمتع برأسمال ثقافي يتحدد في إتقان اللغات و ممارسة الفنون والمطالعة الحرة…ما جعلها مستعلية عن الفقراء وإن آغتنوا، وهذا التوجه يعيد للفكرة نوعا من بريقها الذي تلبست به المادة في صناعة التفوق الاجتماعي والاقتصادي.
تحضر في كثير من الأدبيات أمثلة تحتفي بالفكر وأهله، بغض النظر عن المستوى المادي، فالإنسان إذا وفد على قوم بثوب أنيق جالب للآنتباه، رفع من قيمته وهو يغشى المجلس، لكنه إذا جلس بينهم رفعه أو وضعه كلامه الذي هو عصارة فكره، فالفكر هو الحاسم في تحديد قيمة الإنسان بل هو الدال على حقيقة وجوده حسب المنطق الديكارتي: أنا أفكر إذا أنا موجود، فالمادة بما تحيل إليه من آستهلاك، لا يمكن أبدا أن ترسم لصاحبها صولجان التميز الاجتماعي إلا في المجتمعات المعوية، يروى أن رجلا في مجلس، ألح على إظهار مأكوله، فصار يجهر: أكلت الشواء، محاولا آستمالة آحترام الحضور ،فأجابه أحدهم: فكيف خرج منك؟!!
ذ. طارق مرحوم

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed