مع الحدث
المتابعة ✍️: ذ لحبيب مسكر
في واحدة من خرجاته التي لا تكتمل دون نكتة ثقيلة أو تصريح قابل للتأويل، قال السيد عبد الإله بنكيران مخاطبًا النساء:
“الزواج هو اللي غينفعكم، وإذا بقيتوا بلا زواج، غادي تولّيو بحال بلارج.”
قد يبدو الأمر في ظاهره “نصيحة أبوية”، لكن خلف هذه العبارة تتوارى نظرة دونية تختزل المرأة في دور واحد: أن تتزوج، وإلا أصبحت كائنًا خارج السرب، لا جدوى منه.
لكن الأدهى، أنه اختار “بلارج” ليُجسد به هذا المصير المزعوم!
وهنا يفرض نفسه سؤال بسيط:
هل يعرف السيد بنكيران أصلًا من هو بلارج؟
أم أنه فقط التقط الاسم من الذاكرة الشعبية وركب عليه موجة جديدة كما يفعل دائمًا؟
بلارج، أو اللقلق الأبيض، ليس طائرًا هائمًا يبحث عن من يُنقذه.
إنه في المخيال المغربي رمز للصفاء، للتأمل، للرزانة، وللاستقلال.
طائر لا يعشش إلا في الأماكن العالية والنظيفة: فوق الصوامع، الأسطح، الأطلال، أعمدة النور.
يراقب من فوق، في صمت وهيبة، لا يختلط بضجيج الأرض ولا يلتفت للجدل التافه.
بلارج لا يعيش في العزلة، بل في اختيار.
لا يهاجر بلا عودة، بل يعود كل عام إلى نفس العش، بوفاء لا يشبه تقلبات السياسيين.
في الأغنية الخالدة “المدينة القديمة”، وصفه نعمان لحلو بدقة قائلاً:
“… طار البلارج وطارو الجواد معاه…”
والبيت هنا يحمل معنى عميقًا في الثقافة المغربية، حيث “طارو الجواد” أي أن البلارج يرافق الصالحين .
وهذا يجعل البلارج رمزًا للسمو الروحي والشاهد على رحيل النفوس الطيبة، وهو شاهد صامت على تحولات الزمن، على قصص الحب والوداع، على الأحياء التي تغيرت والوجوه التي غابت.
بلارج لا يطلب، لا يشتكي، لا يتذلل.
بلارج ليس رمزًا للفشل، بل رمزٌ نقي، أرفع من أن يُستعمل في نكتة تهكّمية لتأنيب النساء.
والمرأة التي اختارت مسارًا مختلفًا في الحياة، خارج مؤسسة الزواج، ليست بحاجة لتشبيهات مهينة.
بل إن كانت هناك مقارنة ممكنة، فهي أن النساء المستقلات أشبه بالبلارج الحقيقي، لا بما صوره بنكيران.
فهن، مثله، عاقلات، حرّات، يعرفن متى وأين يعششن، ويُحلّقن فوق الأحكام الجاهزة.
المرأة ليست مشروعًا ناقصًا بانتظار “عقد إنقاذ”، ولا تحتاج لشهادة صلاحية من رجل سياسي ليثبت لها قيمتها.
فهي كاملة، راشدة، تُقرر حياتها دون أن تُلزمها قوالب نمطية تافهة.
ما قاله بنكيران لا يُهين النساء فقط، بل يُهين طائرًا أحبه المغاربة، وتوارثوه كرمز للحكمة والنقاء.
ويكشف مرة أخرى عن قدرة البعض على خلط الخطاب الديني بالشعبوي، وسوء الفهم العميق لما تحمله رموزنا من دلالات.
وأخشى، في الأخير، أن يقرأ السيد بنكيران هذا المقال، فيطل علينا غدًا قائلاً إنه كان في الحقيقة يُشبه النساء بالبلارج من باب المديح، وأنه قصد رمزية السمو، والطهر، والوفاء…
لا عجب في ذلك، فهو متخصص قديم في ركوب الموجات، ولعب الكلمات، وتكييف المعنى حسب المناخ، لا حسب المبدأ.
تعليقات ( 0 )