كلمة السيد وزير العدل بمناسبة الندوة الوطنية حول التقاضي عن بعد وضمانات المحاكمة العادلة
المعهد العالي للقضاء ، الثلاثاء 14 رمضان 1442 ، موافق 27 أبريل 2021
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين ؛
السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المحترم ؛
السيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان المحترمة ؛
السيد رئيس النيابة العامة المحترم ؛
السيد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج المحترم؛
السيد رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب المحترم ؛
السيدات والسادة المسؤولون القضائيون المحترمون ؛
السيدات والسادة أطر ومسؤولو المؤسسات الوطنية المشاركة؛
السيدات والسادة رؤساء وممثلو الجمعيات المهنية وجمعيات المجتمع المدني و وسائل الإعلام ؛
أيها الحضور الكريم ؛
عندما بادرنا الى تنظيم فعاليات هذه الندوة بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجلس الوطني لحقوق الانسان ورئاسة النيابة العامة، حول (التقاضي عن بعد وضمانات المحاكمة العادلة) فقد كنا نتطلع جميعا أن تكون وقفة تأمل حقيقية لتقييم تجربة رائدة وواعدة عرفتها منظومة العدالة ببلادنا.
فبحلول السابع والعشرين من شهر أبريل من سنة 2021، تكون قد مرت سنة كاملة على إطلاق تجربة المحاكمة عن بعد ببلادنا ؛
في مثل هذا اليوم من السنة الماضية ، وبحضور السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والسيد رئيس النيابة العامة والسيد نقيب هيئة الرباط ممثلا عن جمعية هيئات المحامين بالمغرب ، أطلقنا هذه التجربة الرائدة من المحكمة الابتدائية بسلا ، وبالضبط من داخل قاعة جلسات مخصصة للبت في قضايا المعتقلين.
جلسة حضرنا أطوارها كمسؤولين عن تدبير شؤون العدالة ببلادنا، وتابعنا وقائعها وتفاصيلها باهتمام شديد، كواحدة من عشرات المحاكمات عن بعد انطلقت في نفس اليوم بكافة محاكم المملكة، وكلنا أمل وعزم على كسب التحدي وربح الرهان لإنجاح هذه التجربة الفريدة من نوعها في مشهد العدالة ببلادنا.
السابع والعشرين من شهر أبريل من سنة 2020 ، تاريخ سيبقى عالقا في أذهاننا جميعا ؛
إنه تاريخ يرمز بالنسبة لمنظومة العدالة إلى التحدي والعزم ، والحرص على كسب الرهانات والتحديات التي فرضتها ظروف الجائحة ؛
تاريخ أثبتت فيه أطرنا الشابة من المهندسين والتقنيين و كدلك السادة القضاة والموظفين كفاءتهم وقدرتهم على أن يكونوا في الموعد، مثلما عودونا دائما في مثل هذه الظروف الصعبة؛
إنه حدث أثبت أن المغرب الكفاءات المقتدرة والطاقات المعبأة، قادر بفضل ما يتحلى به أبناؤه من روح وطنية راسخة ومن تقدير للمصلحة العليا للوطن ، قادر أن يواجه كل الصعوبات والتحديات ، ويكسب كل الرهانات.
هؤلاء هم أبناء مغرب اليوم، مغرب محمد السادس، مغرب التحديات والمنجزات.
لعلكم تتذكرون أيها السيدات والسادة الأفاضل الظروف العصيبة التي كانت تجتازها بلادنا في مثل هذا التاريخ من السنة الماضية بسبب الاجتياح الوبائي، حيث فرضت الدولة حجرا صحيا شاملا، وإغلاقا عاما بكامل التراب الوطني وذلك لمنع تفشي الوباء الذي كان يفتك بالعديد من دول العالم، ويتسبب في انهيار المنظومات الصحية في أكثر الدول تقدما وقوة .
حجر صحي رافقه توقف شبه كلي لعمل المؤسسات والإدارات العمومية، وتقييد كبير لحركة التنقل سواء داخل المدن أو فيما بينها ، وتشديد للإجراءات الاحترازية في أماكن التجمعات البشرية ، والأماكن التي يرتادها المواطنون أو التي تعرف حركة كثيفة ودؤوبة لمختلف أنواع الأنشطة .
إن هذه الازمة التي عاشتها بلادنا ، جعلت الحكومة تتعبأ تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده لاتخاذ عدد من الإجراءات والتدابير التي من شأنها محاصرة هذا الوباء والحد من انتشاره وتفشيه، وضمان الأمن الصحي للمواطنين .
ومن منطلق مسؤوليتنا لضمان الامن الصحي داخل المحاكم، وحماية السادة القضاة وموظفي هيئة كتابة الضبط ومساعدي القضاء والمتقاضين والمرتفقين، كنا في وزارة العدل سباقين إلى تبني المقاربة الوقائية لمنع تفشي الوباء في صفوف العاملين في هذا القطاع ، وذلك من خلال عدد من التدابير والإجراءات التي اتخذناها بالتنسيق والتشاور مع كل شركائنا في منظومة العدالة ، وعلى رأسهم المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ، وجمعية هيئات المحامين بالمغرب ، والتنظيمات النقابية والمهنية للقضاة وموظفي كتابة الضبط وباقي مساعدي القضاء .
وإذا كان تحدي الحكومة هو ضمان استمرارية المرافق العامة للدولة في أداء خدماتها للمواطنين والمرتفقين ، ولو في حدودها الدنيا والضرورية في ظل هذه الجائحة، طبقا لمبدأ الاستمرارية الذي يَحْكُمُ المرافق العامة ، والمنصوص عليه في الفصل 154 من الدستور ، فإننا في قطاع العدل كنا معنيين أيضا بهذا التحدي على اعتبار أن المحاكم هي مرافق عمومية تؤدي خدمات للمواطنين ، ولذلك كان شغلنا الشاغل في تلك المرحلة هو ضمان استمرارية البت في القضايا المتابع فيها أشخاص في حالة اعتقال ، نظرا للطابع الخاص لهذه القضايا ، وأيضا لما يميز الاعتقال الاحتياطي في قانون المسطرة الجنائية من خصوصية باعتباره تدبيرا استثنائيا مقيداً لحرية الشخص ، مع الحرص على ضمان شروط المحاكمة العادلة التي نحن مسؤولون جميعا كل من موقعه عن توفير شروطها ، بما يكفل حق المعتقل في الدفاع عن نفسه وإبداء أوجه دفاعه ، والحصول على حكم عادل في أجل معقول ، وبما يكفل أيضا حق المحامين في مؤازرة موكليهم والدفاع عنهم في ظروف تضمن ممارسة هذا الحق بشكل كامل وبدون أي قيود أو عراقيل.
لكن بعد تسجيل عدد من الإصابات بفيروس كورونا لدى نزلاء وموظفي عدد من المؤسسات السجنية ، وتزايد المخاطر بشأن نقل عدوى هذا الفيروس إلى المحاكم، وصدور قرار عن المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج بإغلاق السجون وعدم السماح بإخراج السجناء ونقلهم إلى المحاكم ، فإنه لم يكن أماما من بديل سوى اعتماد المحاكمة عن بعد ، لمحاكمة هؤلاء المعتقلين، وذلك من خلال اللجوء إلى تقنية المناظرة المرئية (visioconférence)، دون حاجة إلى نقلهم إلى المحاكم ، وذلك ضمانا لسلامتهم الصحية ، وسلامة أفراد القوات العمومية المكلفين بنقلهم وحراستهم ، وأيضا سلامة القضاة وموظفي المؤسسات السجنية وموظفي كتابة الضبط المُحْتَكِّين بهم .
وفي هذا الإطار أود الإشارة إلى أن اعتماد هذه التقنية كان قرارا مشتركا لوزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وأن الوزارة في إطار الاختصاصات الموكولة إليها قانونا بادرت إلى توفير الإمكانيات اللوجستيكية والتقنية والبشرية ، والقيام بدور التنسيق مع كل المتدخلين وتوفير الظروف المناسبة لها .
لقد انطلقنا من الصفر ، ولم تكن لدينا أو لدى مهندسينا أو قضاتنا أو موظفينا أي تجربة أو خبرة في اعتماد هذه التقنية الجديدة ، لكننا آثرنا أن نرفع التحدي متضامنين ، وقررنا خوض التجربة بكل عزم وإصرار رغم ضيق الوقت ، وضغط عنصر الزمن ، والإكراهات الناتجة عن انتشار الوباء ، وكنا جميعا في الموعد ، حيث إنه بعد مشاورات مكثفة واستكمال كل الترتيبات التقنية واللوجستيكية والتي استمرت طيلة أربعة أيام متواصلة ، تم إعطاء الانطلاقة الرسمية لهذه العملية بجميع محاكم المملكة يوم 27 أبريل من سنة 2020 ، بإشراف شخصي من وزير العدل والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئيس النيابة العامة.
هي مناسبة أستحضر فيها المجهود الاستثنائي الذي بذله أطرنا من المهندسين والتقنيين في مديرية التحديث والمديرين الفرعيين خلال تلك المدة الوجيزة لكي ترى هذه التجربة النور في الموعد المحدد لها، واشتغالهم بدون كلل أو تعب، وتكبدهم عناء التنقل إلى المحاكم والمؤسسات السجنية للسهر على تجهيزها رغم ظروف الجائحة.
طاقات وكفاءات لن تسعفني الكلمات للتعبير عن تقديري لها وتنويهي بها ، لكنني أقول لهم جميعا ولكل من ساهم في إخراج هذه التجربة إلى حيز الوجود أنكم أبليتم البلاء الحسن وكنتم في مستوى الحدث وفي مستوى الثقة التي وضعت فيكم وكنتم على قدر التحدي ، فلكم منا جميعا كل الشكر والتقدير والتنويه .
حضرات السيدات والسادة الافاضل ؛
لضمان نجاح هذه التجربة ، قامت الوزارة بإنشاء 220 حسابا إلكترونيا وزعتها على المحاكم والمؤسسات السجنية، وتم التنسيق مع المسؤولين القضائيين والمديريات الجهوية لإدارة السجون وإعادة الإدماج، لتجهيز المحاكم وتهيئ القاعات على مستوى المؤسسات السجنية بحواسيب معدة لهذه العملية ، وتم تثبيت البرامج اللازمة لتفعيل آليات الاتصال الالكتروني .
وأخذا بعين الاعتبار لغياب نص تشريعي يؤطر هذه العملية، فقد انعقدت بجميع محاكم الاستئناف بالمملكة اللجان الثلاثية المكونة من السادة الرؤساء الاولين لهذه المحاكم والوكلاء العامين للملك لديها ونقباء هيئات المحامين، وتم الاتفاق على التفعيل الامثل لهذه التقنية اعتبارا لنجاعتها وأهميتها في الظروف الراهنة. وذلك حرصا من جميع مكونات العدالة على الانخراط في المجهود المبذول من طرف الدولة لمحاصرة الوباء والحد من تفشيه،
هذا وينبغي التأكيد على أنه اعتبارا لطبيعة المعلومات التي يتم تداولها أثناء المحاكمة ، سواء من حيث حساسيتها أو طبيعتها، فقد تم اعتماد النظام السمعي البصري الداخلي المُؤَمَّن الخاص بوزارة العدل ،وتم إعطاء الاولوية البالغة للأمن المعلومياتي، وذلك من خلال احترام كافة التوجيهات الصادرة عن مديرية أمن نظم المعلومات بإدارة الدفاع الوطني لضمان حماية وأمن النظام السمعي البصري المستعمَل .
وأخذا بالملاحظات التي توصلنا بها من مختلف شركائنا ، سواء في السلطة القضائية أو في هيئة الدفاع، بشأن انقطاع البث بين المحاكم والسجون أثناء انعقاد الجلسات عن بعد، أو ضعف جودة الصوت والصورة ، أو عدم تمكن المتهم من مشاهدة دفاعه أو ممثل النيابة العامة ، وسعيا لتثمين هذه التجربة وتجويدها بما يحقق النجاعة القضائية المطلوبة ، ويعزز من ضمانات المحاكمة العادلة ، فقد قمنا بتاريخ 08 شتنبر من السنة الماضية بالتوقيع على مذكرة تفاهم مع المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج ، إلتزمنا بموجبها بتجهيز القاعات المخصصة للمحاكمة عن بعد داخل المؤسسات السجنية بما تحتاجه من المعدات والبرامج المعلوماتية اللازمة لهذه الخدمة ، مع ضمان صيانتها، وبربطها بخطوط الأنترنت عالي الصبيب، الذي يضمن جودة الصوت والصورة وعدم انقطاع البث.
وتنفيذا لهذه المذكرة ، قمنا الى غاية اليوم بتجهيز 69 مؤسسة سجنية من أصل 71 بخدمة الانترنيت ، منها 62 مؤسسة بالانترنيت عالي الصبيب ، و 07 مؤسسات بالإنترنيت من نوع G4 .
وفي نفس السياق خصصت الوزارة غلافا ماليا يصل إلى خمسة (05) ملايين درهم، تم استثماره لإقتناء وتثبيت جميع المستلزمات التقنية واللوجستيكية الكفيلة بضمان جودة هذه العملية وفق التفصيل التالي :
104 من الحواسيب الثابتة مع كاميرات خاصة بها ، تم توزيعها على المؤسسات السجنية ، من أجل وضعها بالقاعات المعدة للمحاكمة عن بعد ؛
90 كاميرا رقمية متحركة جاري تثبيتها بقاعات الجلسات بمختلف محاكم المملكة ؛
164 شاشة تلفاز من الحجم الكبير تم تثبيتها بقاعات الجلسات بمختلف محاكم المملكة ؛
215 حسابا إلكترونيا خاصا بالتواصل عن بعد ، تم تثبيتها بمحاكم المملكة والمؤسسات السجنية ؛
75 خطا للأنترنيت عالي الصبيب .
أما من الناحية التشريعية ، فإنه وعيا منا بضرورة التأطير التشريعي للمحاكمة عن بعد ، ولكافة الإجراءات القضائية التي تتم عبر هذه التقنية ، فقد قمنا بالتنسيق مع مختلف الشركاء بإعداد مشروع قانون يتعلق برقمنة الإجراءات والمساطر في المسطرتين المدنية والجنائية ، وقد تم إحالته على مسطرة المصادقة والاعتماد، ومن المنتظر أن يحال على المجلس الحكومي خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
مشروع أنجزناه وفق مقاربة تشاركية ، وفي إطار التوجيهات الملكية السامية التي تضمنتها الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين في المؤتمر الدولي للعدالة بمراكش سنة 2019 ، حيث قال جلالة الملك حفظه الله
( ندعو لاستثمار ما توفره الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات لنشر المعلومة القانونية والقضائية، وتبني خيار تعزيز وتعميم لامادية الإجراءات والمساطر القانونية والقضائية، والتقاضي عن بعد، باعتبارها وسائل فعالة تسهم في تحقيق السرعة والنجاعة، وذلك انسجاما مع متطلبات منازعات المال والأعمال، مع الحرص على تقعيدها قانونيا، وانخراط كل مكونات منظومة العدالة في ورش التحول الرقمي.) انتهى مقتطف الرسالة الملكية.
يتضمن هذا المشروع العديد من المستجدات التي ستضمن التأطير القانوني للمحاكمة عن بعد والتقعيد القانوني لها ، وفي هذا الإطار ينص المشروع الجديد على إمكانية عقد جلسات المحاكمة عن بعد في القضايا الزجرية عبر تقنية المناظرة المرئية للإستماع إلى الأطراف من قبل قضاة الحكم أو قضاة التحقيق أو قضاة النيابة العامة في بعض الحالات ، وكذا استعمال تقنية الاتصال عن بعد لتواصل المحاكم مع الأطراف والشهود والخبراء والتراجمة ، مع التأكيد على أن إجراءات البحث أوالتحقيق أو المحاكمة التي تتم بهذه الطريقة ، لا يمكن اللجوء إليها إلا بعد الموافقة الصريحة للمشتبه فيه أو المتهم أو الشخص المراد الاستماع إليه ، وأن تضمن هذه الموافقة في المحضر.
ينص المشروع أيضا على السماح للقضاة المغاربة في إطار آليات التعاون الدولي بالإستماع إلى أشخاص موجودين خارج التراب الوطني وذلك باستعمال تقنية الاتصال عن بعد ، مع مراعاة الاتفاقيات الدولية والقوانين الداخلية للدول التي يجري الاتصال داخل إقليمها الوطني .
ولعله لا يخفى عليكم أن العديد من التشريعات الجنائية الحديثة وكذلك الاتفاقات الدولية ذات الصلة، أصبحت تتجه إلى اتخاذ العديد من التدابير القانونية والعملية لرفع كفاءة قطاع العدالة، وكذلك الاتجاه صوب الاستعانة بالتقنيات الحديثة لتطوير أداء مرفق العدالة، بما يكفل تبسيط إجراءات المحاكمات وسرعتها، وضمان احترام المبادئ الأساسية لإجراءات التقاضي، ومن هذه التقنيات الحديثة الاستعانة بأجهزة الاتصال المرئي والمسموع .
وهنا يتعين التمييز بين ما يعرف بالمحاكمة أون الين، والاتصال عن بعد في الإجراءات الزجرية، إن الفرق بين محاكمة أون الين والاتصال عن بعد في المحاكمة المرئية في الدعاوي فرق جوهري، إذ أن المحاكمة بتقنية التناظر المرئي في الدعوى تحافظ على جلسات المحاكمات في قاعات المحاكم بالطرق التقليدية، إلا أن الاتصال مع أحد المعنيين بالدعوى يكون مرئياُ وليس بحضوره الشخصي في حال طلبت الجهة المختصة أو أحد أطراف الدعوى العامة ذلك، في حين أن المحاكمة أون الين تتضمن تعديلا جذرياُ في أساليب المحاكمات، يجعل مراحل التقاضي اعتباراً من تسجيل الدعوى وحتى التنفيذ إلكترونياً، دون أن يضطر القاضي لعقد الجلسة في قاعة محكمته .
لذلك فان التجربة المغربية موضوع هذه الندوة الوطنية تندرج ضمن التشريعات العصرية المتجهة إلى تحديث قطاع العدالة من خلال استعمال التكنولوجيات الحديثة في تيسير الإجراءات الزجرية من جهة، والسعي قدر الامكان إلى تقريب العدالة من الافراد من خلال تقديم أكبر قد ممكن من الخدمات عن بعد من جهة أخرى، وهذا ما سبق للمشرع المغربي أن توخاه عندما نص سنة 2011 ضمن المادة 347,1 من قانون المسطرة الجنائية على إجازة استعمال تقنية الاتصال عن بعد لسماع شهادة الشاهد في اطار حماية المبلغين والشهود والخبراء
ولعله يتعين التذكير هنا أن الاتحاد الأوروبي اجاز في الاتفاقية الأوروبية الجديدة للمساعدة القضائية في المسائل الزجرية التي أقرها المجلس الأوروبي عام 2000 استخدام تقنية الاتصال عن بعد في سماع إفادات الشهود والخبراء بين الدول المتعاقدة
كما عمدت العديد من المحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بعض الدول الأوروبية الى تزويد قاعاتها بشاشات عرض رقمية يتم من خلالها عرض الادلة بـأشكالها كافة سواء كانت مستندات ورقية ما، أم صوراً فوتوغرافية أم اشكالا ثلاثية الأبعاد ، وذلك بواسطة كاميرا رقمية أو حتى ملفات رقمية ، وقد زودت هذه الشاشات بأجهزة تسمح بالكتابة عليها وبالتحكم بعرض الادلة كالتحكم بسرعة عرض شريط مثلا أو إبطائه أو إيقافه عند اللزوم وأيضاً من خلال التركيز على أدلة معينة بواسطة رسم دائرة حولها أو الإشارة إليها أو تلوينها.
ومن القوانين التي تبنت تطبيق تقنية الاتصال عن بعد في مجال الإجراءات الزجرية، التشريع الإيطالي الذي أخذ بهذه التقنية سنة 1992لسماع إفادات الشهود والمتعاونين مع العدالة شفهياً ضد أفراد عصابات المافيا من الأماكن السرية التي يتواجدون فيها، وقد تم التوسع في تطبيق هذه التقنية سنة 2000 ليشمل التشريع الإيطالي إجازة سماع أقوال المتهمين أيضا أثناء التحقيق معهم
وفي فرنسا دخلت تقنية التناظر المرئي الى قانون المسطرة الجنائية سنة2001 قبل ان تعرف تطورات متلاحقة في مجالات استعمالها،
بينما أصدرت أغلب الولايات المتحدة الأمريكية تشريعات أجازت استخدام تقنية الاتصال عن بعد لسماع شهادات أو أقوال شهود أو الضحايا شفهياً عبر استخدام تقنية الاتصال المرئي – المسموع.
جذير بالذكر ان مختلف السياقات التشريعية بشأن استعمال تقنية التناظر المرئي في مسارات التقاضي عرفت نقاشات حقوقية وقانونية حول مدى احترام ضمانات المحاكمة العادلة كما هو الشأن بالنسبة للسياق المغربي، وهي نقاشات صحية ومفيدة سواء على مستوى التشريع أو الممارسة أكدت أهمية تملك الفاعلين والمهنيين للثقافة الرقمية واستيعاب مفاهيمها في مقاربة التمثلات الكلاسيكية لمفاهيم الزمان والمكان والحضورية والتواجهية مما سينكب عليه المتدخلون في الجلسة العلمية بعد قليل.
معلوم ان المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان أصدرت سنة 2006 قرارا بخصوص ملاءمة التناظر المرئي في عدة قضايا تخص محاكمات عناصر المافيا مع المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان بشأن المحاكمة العادلة حيث اعتبرت ان هذه التقنية لا تنتهك في حد ذاتها هذه المادة، بل ان القاضي الأوروبي اعترف بالمزايا المتعددة لتقنية التناظر المرئي واهدافها المشروعة مركزا اهتمامه على الشروط التقنية المؤطرة لأطوار هذه المحاكمة
حضرات السيدات والسادة الأفاضل ؛
بالرغم مما قد يسجل على التجربة المغربية من بعض المؤاخذات المرتبطة بالجوانب التقنية واللوجستيكية والتي كنا واعين بها منذ اللحظة الأولى ، فإننا نعتبر أنها كانت حلا ضروريا ولا مناص منه في ظل استمرار الجائحة ، وفيما يمكن أن تخلفه من عواقب وخيمة على نزلاء المؤسسات السجنية وكل العاملين بالمحاكم ، وعائلاتهم وأقاربهم ، ونعتبر أن قرار اللجوء إليها ، فضلا عن كونه كان محكوما بعنصري الضرورة والاستعجال ، فإنه يندرج ضمن مقاصد الشرع الخمسة التي يعد حفظ النفس واحداً منها ، ويحتل المرتبة الثانية فيها بعد حفظ الدين ، كما يندرج أيضا في إطار مبدأ حفظ الحق في الحياة الذي كرسه دستور المملكة ، وأقرته المواثيق الدولية الأساسية في مجال حقوق الانسان ، والحال أن لتقنية التناظر المرئي المرء لكي يتمتع فعلا بحقه في المحاكمة العادلة عليه أن يكون حيا يرزق.
لذلك فإننا مرتاحون لهذه التجربة ، ومرتاحون للمواقف الإيجابية التي عبر عنها عدد من السادة النقباء والمحامون والخبراء والاكاديميون ورجال القانون وما حققته من نتائج كان لها أكبر الأثر على الحد من تفشي الوباء داخل المؤسسات السجنية وفي صفوف العاملين بقطاع العدل ، وفي تسريع وتيرة البت في قضايا المعتقلين والإفراج عنهم ، ويكفي أن أشير في هذا السياق أنه بفضل هذه التقنية، تم خلال سنة كاملة الإفراج عما يقارب 12.000 معتقلا إما بسبب تمتيعهم بالسراح المؤقت أو التصريح ببراءتهم أو تخفيض العقوبة الحبسية الصادرة في حقهم أو تأييدها أو تحويل العقوبة الحبسية النافذة إلى موقوفة التنفيذ،أو سقوط الدعوى العمومية ، وهو رقم مهم له دلالة بليغة وعميقة ، ولا يمكن إلا أن يشجعنا على المضي قدما نحو تعزيز هذه التقنية بمحاكمنا .
في ختام هذه الكلمة أود أن أؤكد حضرات السيدات والسادة الافاضل أننا عندما بادرنا الى تنظيم هذه الندوة الوطنية فلاننا واعون تمام الوعي ان التجربة وقد حققت ما حققته في الميدان القضائي، فانها اليوم في حاجة الى قراءة متأنية وحوار بناء لتجويدها وادراجها في مسار الإصلاح الشامل للعدالة ببلادنا،
واذا كان من الطبيعي أن نلجأ كمكونات لمنظومة العدالة الى فتح هذا حوار وطني مؤسساتي بشأنهاـ فاننا لا بد أن نشكر المجلس الوطني لحقوق الانسان في شخص رئيسته الأستاذة أمينة بوعياش على انخراطها التلقائي في تنظيم هذه الندوة مما يدل مرة أخرى على أن استقلالية المؤسسات الدستورية عن بعضها البعض لا يمنعها من إرساء دعائم التعاون والتكامل بينها في اطار المصلحة العليا للبلاد.
شكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
شارك هذا المحتوى:
إرسال التعليق