الدكتور سعيد منتسب
كان رأسه ممتلئا حتى آخره بالسينما، وظل اهتمامه بها طازجا على الدوام، يغرد خارج السرب العام، ويحاول أن يجمع دائما بين الفكرة والصورة والكلمات، وكان بالفعل هو الاستثناء المثير للجدل، إذ كلما تحدث عن السينما كان يفعل ذلك بقلب شاعر شديد الحساسية.
ولا أكتم بأنني كنت شديد الإعجاب به، منذ أن رأيته أول مرة في بداية التسعينيات، وتحديدا في إحدى دورات مهرجان السينما الإفريقية بمدينة خريبكة. كنا آنذاك طلبة بكلية الآداب بنمسيك، ونمثل النادي السينمائي للكلية (ابراهيم زرقاني، عبد المجيد سداتي، عبد الخالق الساخي، عبد الرزاق ضريا، أبو الدهاج نور الهدى، عبد الله أستاذ، سعيد منتسب..). كان الماستر كلاس الليلي يبدأ في منتصف الليل، ويستغرق في المعدل أكثر من ساعتين، وكان الرجل الذي يلتهم العالم في “رمشة عين”، يصرف الغيوم عنا بسرعة غريبة، يتحدث عن السينما كما لو كان يقرأ من كتاب فلسفي.
ومنذ ذلك الحين، ظل نور الدين الصايل حاضرا بقوة في صلب رؤيتي للسينما: “الفيلم” يقع خارج المتعة، وقريبا جدا من المعرفة. كان يستعرض آراء النقاد والفلاسفة دون غطرسة، لدرجة أنه يمنح للفيلم حياة أخرى. فالفيلم، دائما، يستعرض تجربة إنسانية وفلسفية بكل غزارتها وتعقيداتها. ولهذا اعتبرته، عن حق، المعلم الذي حرر الخطاب النقدي السينمائي من “إيديولوجيا الصراع الطبقي” الذي كان سائدا آنذاك داخل الأندية السينمائية، ومنحه تذكرة عبور إلى شكله الأصلي المنفتح على لغة الصورة والسيميولوجيا وأنواع المعرفة الإنسانية الأخرى. بل إن نظرته للسينما كانت مسقوفة بأجراس عديدة، يختلط فيه المعنى بالتأويل، وبذلك السفر اللذيذ في “الأرشيف الإنساني اللامتناهي”.
لقد كان بالفعل، كما اعتقدت، “نهرا لا يجف في صحراء”، يكتظ بمياه كثيرة، ويروينا بسخاء بأضواء من آفاق سينمائية أخرى، ويفرض علينا بهدوء أن نحطم تلك السلاسل التي تجعلنا نلوي عنق القراءة فنحملها ما لا تطيقه من “عنف إيديولوجي” متجاوز، وخاطئ في أغلب الأحيان.
لقد استمر احترامي للرجل على طراوته لمدة ثلاثة عقود، وكنت كلما استمعت إلى مداخلة من مداخلاته الكثيرة هنا وهناك، أزداد يقينا بأنه يستحق كل ذلك التوهج الذي اتسع له على نحو استثنائي، رغم أنه لم يخلف إنتاجا سينمائيا مكتوبا، ما عدا بعض السيناريوهات.
ومما أذكره من لقاءات للراحل نور الدين الصايل، أنه صرح في ليلة الفلاسفة التي احتضنها المعهد الفرنسي بالدار البيضاء قبل سنتين (2018)، بأنه ليس دولوزيا (نسبة إلى جيل دولوز)، وبأن له قراءة خاصة للمجهود الفكري الذي قام به دولوز حول السينما، وذلك أثناء حديثه عن كتابيْ: (الصورة- الحركة) و(الصورة- الزمن).
وقال الصايل، إن السينما لم تنقذ حياته، بل الأحرى أنها “أنقذته من الحياة”. مضيفا أن السينمائيّين، مثل جميع المشتغلين في الفنون على نحو عام، لا يحتاجون الفلسفة للتفكير وتأمل السينما. فالفلسفة وسيلة وليست علمًا يمتلك محتواه الخاص. كما أن السينما التي تشكل مجالا لاهتمامه هي التي تسمح بانطلاق المعاني وتحريرها عبر تشكيل انفعالات وأحاسيس تُقاتل لتقترح حقيقة أخرى للأشياء. وهو ما عبر عنه بـ”النظام”، فأي فيلم يقترح “نظاما” متكاملا يجعله، إما يشاهده إلى نهايته، وإما يغادر القاعة بعد مرور 40 دقيقة أو أقل؛ والمخرج المبدع هو الذي يستطيع أن يقبض على اللامتناهي لاستعادته، تماما مثل النحات الذي يرى المنحوتة في قطعة الرخام قبل أن يشرع في عمله، على نحو لا يمكن أن يراها سواه. وهذا هو نظام الأشياء التي يقترحها علينا كل فيلم سينمائي.
واستشهد الصايل بفيلم “أوديسا الفضاء” لمخرجه ستانلي كوبريك، بوصفه “أحد أحسن الأفلام في تاريخ العالم”. إنه، في رأيه، فيلم مركّب من الموسيقى، المتمثلة في مقاطع ليغيتي، وريتشارد شتراوس، وجون شتراوس؛ لأن العالم أتى من صوت تكوَّن منه كل ما سيكون من ضوء وأشياء.
وأوضح الصايل أن ستانلي كوبريك يحكي في “أوديسا الفضاء” قصة العالم منذ إنسان ما قبل التاريخ وصولا إلى مرحلة الذكاء الصناعي، وما سيحدث مستقبلا، مشيرا إلى أن المخرج صوّر خوف الإنسان من الاختفاء بسبب تطور الذكاء الصناعي منذ الستينيات، واستمرار ذهاب العالم دون أن يعرف إلى أين، الذي تعكسه لقطة توجه المركبة إلى كوكب المشتري.
وقال الصايل إن “قوة الذات تكمن في المعرفة التي يجب أن تكون هدفا لنا بوصفنا أناسا”، مضيفا أنه “في الفهم من أجل الفهم فرحة اسبينوزية؛ لأنه داخل هذا المجال المغلق نجد انفتاحا مطلقا يقودنا إلى المعرفة لذاتها، مما يجعلنا نشعر بالغبطة، وبذلك يكون الأبد هو الشيء الوحيد الذي يجب أن نفكّر فيه، مع كل ما نعيشه وما سنعيشه، ورغم الفواجع التي نراها”.
وقال الصايل إن ضرورة قول “نعم” للوجود بأكمله، لا لأنفسنا وحدنا، تتمثل في أن إحساسنا بلحظة غبطة واحدة، وهذا يعني أن الوجود بكامله قد التحم من أجل جعلها ممكنة.
وتحدث الصايل عن مفهومي “الترتيب” و”المسافة”؛ “الترتيب” بمعنى أن العمل السينمائي يقدم للمتلقي إمكانية “إعادة ترتيب العالم” ومشاركة السينمائي عمليته الإبداعية والرغبة في ترتيب العالم المبعثر. فيما تعني “المسافة” أخذ مسافة من كل شيء كما تطرحها السينما عامة. فالشاشة، حسب الصايل، تعلم المتلقي أن “يحتل المكانة التي يجب أن يحتلها”. كما أن هناك مسافة أخرى بين آلة بث الصور والشاشة، وبين الكاميرا والأشياء المصورة، وبين الواقع والخيال، وبين المرئي واللامرئي، وبين المقول واللامقول.. إلخ.
Share this content:
إرسال التعليق