كلمة السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة بمناسبة ورشة عمل حول موضوع “آليات التكفل بالأطفال ضحايا الاعتداءات الجنسية في ضوء العمل القضائي الوطني ومبادئ اتفاقية لانزاروت”
الرباط 25 أكتوبر 2023
مع الحدث عبد الحق عبد النجيم
بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
يسعدني في البداية أن أرحب بالسيدة رئيسة مكتب مجلس أوروبا بالمغرب شاكرا لها الدعم والتواصل المستمرين مع رئاسة النيابة العامة، كما أرحب بالسيدة رئيسة لجنة اتفاقية لانزاروت التي تحضر معنا اليوم برحاب رئاسة النيابة العامة والتي دون شك سيكون تواجدها معنا قيمة مضافة لما ستقدمه من خبرات قيمة ذات الصلة بهذه الاتفاقية وموضوعها.
وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا اللقاء الذي التأم لجمعه خبراء دوليون إلى جانب ثلة من القضاة المتخصصين الممارسين من النيابة العامة وقضاء الحكم سيكون مناسبة لإثارة انشغالهم المشترك الذي هو حماية حقوق الطفل، وهي مناسبة سانحة لتدارس ومناقشة موضوع ذي أهمية بالغة وراهنية ملحة، ألا وهو حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي باعتباره من أبشع أنواع الاستغلال الذي يمكن أن يستهدفهم ويستبيح طفولتهم ويشكل لا محالة تهديدا حقيقيا لحاضرهم ومستقبلهم.
ومما لاشك فيه أن هذا اللقاء بما سيتيحه من إطلاع على الخبرات الدولية والتجارب المقارنة، وبما سينبثق عنه من معارف وخلاصات سيشكل لبنة إضافية لصرح تعزيز القدرات الذي ما فتأت رئاسة النيابة العامة تحرص على إغنائه للرفع من أداء قضاء النيابة العامة.
حضرات السيدات والسادة،
لا يخفى عليكم ما توليه بلادنا من أولوية للنهوض بأوضاع الطفولة وما تبذله من مجهودات حثيثة ومستمرة لضمان مختلف أوجه الحماية التي يحتاجها الأطفال، سواء القانونية منها أو الاجتماعية تنزيلا للرؤية الملكية السامية والعناية الخاصة التي يوليها جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده لقضايا الطفولة، والتي أكدها جلالته في العديد من خطبه السامية، نورد منها ما جاء في الرسالة الملكية لجلالته بمناسبة اطلاق حملة مدن افريقية بدون اطفال في الشوارع بتاريخ 24 نونبر 2018 إذ قال”يحظى الدفاع عن قضية الاطفال بإجماع وطني في المغرب حيث يتكامل عمل الدولة مع الالتزام الانساني والثابت للمجتمع المدني
…فيجب الا تنحصر جهود حماية الأطفال في الحفاظ على سلامتهم الجسدية والمعنوية والنفسية، بل ينبغي ان تقترن أيضا بتوفير الشروط الكفيلة بالنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والتفافية.” انتهى النطق الملكي السامي
إن حرص بلادنا على تكريس حقوق الأطفال وحمايتها كيفما كانت وضعيتهم، يتأكد من خلال مصادقتها على العديد من الاتفاقيات والصكوك الدولية، سواء تلك التي تعنى بشكل مباشر بحقوق الأطفال وعلى رأسها الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، وكذا البروتوكولين الإضافيين المحلقين بها، أو غيرها من الاتفاقيات التي لها صلة وثيقة بهذه الحقوق، كالاتفاقية الأوروبية لبودابيست المتعلقة بمكافحة الجرائم الالكترونية وبروتوكولها الإضافي الأول، والتي دعت الدول الأطراف إلى اعتماد ما يلزم من تدابير تشريعية وغيرها لحماية الأطفال من الاستغلال الجنسي في المواد الإباحية.
ومن نفس المنطلق وتكريسا للانخراط الفعال في الدينامية الدولية الرامية إلى التصدي لكل أشكال الاعتداءات على الأطفال بادرت المملكة المغربية سنة 2013 إلى التوقيع على اتفاقية مجلس أوروبا بشأن حماية الأطفال من الاستغلال والاعتداء الجنسي، في انتظار استكمال إجراءات المصادقة عليها باعتبارها لبنة أساسية في بناء الحماية والوقاية لحقوق الطفل.
ووفاء بهذه الالتزامات الدولية عمل المشرع المغربي على ملاءمة الترسانة القانونية الوطنية لتتماشى والقيم والمبادئ الكونية المتعارف عليها، حيث تضمنت العديد من المقتضيات الزجرية التي رصدت جميع أشكال الاستغلال والاعتداءات ضد الأطفال بما فيها الاعتداءات الجنسية بمختلف صورها وخصتها بعقوبات صارمة ومشددة تعكس إرادة المشرع القوية في التصدي بكل حزم لهذا النوع الخطير من الجرائم الذي يهدد سلامة النشأ عماد الأمة ومستقبلها، كما سنت تدابير حمائية لمواكبة الأطفال الضحايا ومساعدتهم على تجاوز ما لحقهم من ضرر وإعادة إدماجهم داخل المجتمع.
حضرات السيدات والسادة؛
إن توفير الحماية القانونية للأطفال من مختلف الاعتداءات وخاصة الجنسية منها موضوع يحظى باهتمام جميع الدول التي أصبحت تدق ناقوس الخطر بفعل عدد القضايا التي يتم تسجيلها سنويا، وباتت تؤرق الأسر والآباء بسبب خوفهم على فلذات أكبادهم من أن تطالهم أيدي المنحرفين الذين لا يتورعون عن إيذاء الأطفال واستغلالهم، ناهيك عن المخاطر الناتجة عن تطور التكنولوجيا العصرية، والتوسع الكبير في استخدام شبكة الانترنت والآليات الرقمية، التي أصبحت مصدرا لأشكال متعددة من الجرائم الحديثة التي تتميز بالسرعة في التنفيذ وباتساع نطاقه، كما تتسم بسهولة محو آثارها، وهو ما يستغله الجناة في استدراج الأطفال الضحايا واستغلالهم جنسيا متخطين بذلك كل الحدود والمسافات، حيث باتت هذه الجرائم قادرة أن تطال الأطفال أينما وجدوا وتنال من براءتهم بكل وحشية، وهو ما يتطلب تظافر الجهود أكثر من أي وقت مضى للتصدي لهذه الجرائم المستحدثة بالحزم والصرامة اللازمين.
من هذا المنطلق واعتبارا للاختصاصات المنوطة برئاسة النيابة العامة في مجال تنفيذ السياسة الجنائية الوطنية، فإنها ما فتئت تولي قضايا الاعتداءات الجنسية ضد الأطفال بمختلف صورها عناية خاصة وتضعها ضمن برامجها الاستراتيجية ولا تدخر جهدا لتسخير كل الإمكانيات المتاحة لتوفير الحماية اللازمة للأطفال من جميع صور هذا الاستغلال، وقد بادرت إلى توجيه العديد من الدوريات إلى النيابات العامة بمختلف محاكم المملكة، تضمنت توجيهات تحثهم فيها على تعزيز الحماية القانونية للأطفال من كل أنواع العنف والاستغلال وإساءة المعاملة، مع الحرص على التطبيق الصارم للقانون في مواجهة مرتكبي هذه الجرائم وضمان عدم إفلاتهم من العقاب، حيث سجلت مختلف النيابات العامة ما مجموعه 3295 قضية اعتداء جنسي ضد الأطفال برسم سنة 2022 بما يناهز أكثر من 41 % من مجموع جرائم العنف المرتكبة في حق الأطفال.
كما انخرطت في برامج تعاون دولية تروم تعزيز الآليات الحديثة في مجال البحث والتحري التي تمكن هيئات إنفاذ القانون من رصد هذه الجرائم وتجميع الأدلة حولها وتقديم مرتكبيها للعدالة، فضلا عن حرصها الدائم على تعزيز قدرات أعضائها المكلفين بقضايا الطفولة وتجويد أدائهم، عبر التكوين المستمر والتكوين التخصصي من خلال الانفتاح على الخبرات والتجارب المقارنة في المجالات ذات الصلة بحقوق الطفل وهو ما يجسده لقاؤنا اليوم الذي يسعى إلى تمكين القضاة من الاطلاع على مبادئ اتفاقية لانزروت ومختلف الممارسات الفضلى على المستوى الدولي والاجتهادات القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الانسان في سياق حماية الأطفال. كما أن رئاسة النيابة العامة بصدد إعداد دليل للاستماع للأطفال في تماس مع القانون بمن فيهم الأطفال ضحايا الاعتداءات يوضح التقنيات الضرورية للاستماع للأطفال حفاظا على مصلحتهم الفضلى ومراعاة لهشاشة نفسيتهم وتكوينهم وعدم الإمعان في الإضرار بهم عبر مواجهتهم بالمعتدين أو عبر المساطر القضائية الرسمية التي لا تلائم صغر سنهم. كما يضع الدليل إطاراً مرشداً لكيفية استثمار آليات التواصل عن بعد وغيرها من الآليات الرقمية لتحقيق هذه الغايات.
حضرات السيدات والسادة؛
غير خاف عليكم مدى الآثار الوخيمة للاعتداءات الجنسية على نفسية الطفل الضحية وعلى نموه السليم التي قد تمتد تداعياتها عليه طوال حياته إذا لم يتلق العلاج المبكر والسريع، فضحية اليوم قد يصبح مريض الغد أو مجرم ومعتدي الغد، الأمر الذي يتطلب حتما رعاية خاصة لهؤلاء الأطفال وتتبعا دقيقا لوضعهم الجسدي والنفسي والأسري والاجتماعي، وهنا يبرز دور خلايا التكفل بالنساء والأطفال بالنيابات العامة لدى المحاكم بمختلف مكوناتها التي تعمل على توفير الدعم والمساعدة والمصاحبة للأطفال ضحايا الاعتداءات الجنسية من خلال استقبالهم في ظروف تتلاءم وخصوصية وضعهم وتحرص على تقديم الخدمات الضرورية لهم تيسيرا وتسهيلا لولوجهم إلى عدالة صديقة.
ولا شك أن التكفل الناجع بهذه الفئة لا يقتصر فقط على توفير الحماية القانونية والقضائية، وإنما يعتمد أيضا على خدمات أخرى يقدمها باقي المتدخلين في مجال حماية الطفولة، وهو ما تسهر اللجن الجهوية والمحلية للتكفل بالنساء والأطفال بالمحاكم على تكريسه من خلال دورها التنسيقي بين مختلف الفاعلين، ومن خلال مخططات عملها، الرامية إلى تعزيز هذا التنسيق وتطويره بشكل مستمر لتحقيق الالتقائية بين الخدمات من أجل حماية أنجع للطفولة.
وفي الختام، أرجو التوفيق والسداد لأشغال هذا اللقاء، وأجدد شكري للسادة الخبراء والمتدخلين على إسهاماتهم وتحملهم عناء السفر من أجل تبادل الأفكار والخبرات، شاكرا لكل من ساهم في تنظيم هذا اللقاء على ما بذله من جهود في سبيل تحقيق أهدافه.
وفقنا الله للعمل جميعا لما فيه صلاح أطفالنا وضمان حماية حقوقهم وفقا للتوجيهات السامية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله ، وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم وأقر عينه بولي عهده المولى الحسن وبصنوه الرشيد المولى رشيد وبسائر أفراد أسرته الشريفة، إنه سميع قدير وبالإجابة جدير.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
شارك هذا المحتوى:
إرسال التعليق