Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء مجتمع

أنامل تبدع من صمت اللون و وهج الحياة .

نوال دارغم …. أنامل تبدع من صمت اللون و وهج الحياة …

 

 

✍️ هند بومديان

 

نوال دارغم، فنانة تشكيلية وأستاذة بالتعليم العمومي، تقيم بمدينة الدار البيضاء، تحمل في ريشَتها نبضَ الحياة وانعكاسات التجربة. لم يكن الفن بالنسبة لها مجرد هواية أو تمرين بصري، بل مسارًا وجدانيًا بدأ منذ الطفولة حين كانت تراقب والدها الراحل وهو يرسم. كان المشهد سحريًا، كطقسٍ من طقوس العشق الأولى، فتعلّمت منه كيف تصير الفرشاة امتدادًا للروح.

 

توقفت رحلتها مؤقتًا بسبب الدراسة ومسؤوليات الأمومة، لكنها لم تنطفئ؛ فعادت إلى التشكيل بوعي ناضج وشغف أشد. انطلقت من موهبة فطرية، ثم دعّمتها بتكوينات من تنظيم فنانين تشكيليين، مما ساعدها على صقل أدواتها وخوض مسارات تقنية جديدة. تأثرت بالعديد من المدارس التشكيلية، غير أن المدرسة السريالية الواقعية سكنتها، بما تحمله من رمزية وعمق داخلي.

 

أول أعمالها كانت لحظة تأمل أمام شاطئ تغلفه ألوان الغروب، حملت فيها أولى نبضاتها الداخلية، وشاركت بها في معرض سنة 2018 بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، لتكون انطلاقتها الرسمية نحو عالم المعارض.

 

مع الوقت، تطوّر أسلوبها وتفرّد، وصارت كل لوحة تحمل هويتها الخاصة. أعمالها تتناول موضوعات متعددة كالأمومة، الطفولة، الحرية، والتأمل الوجودي، وتُصاغ ضمن رؤية مفتوحة على التجريب، حيث لا منهج تقني ثابت، بل بحث دائم عن الجديد في الخامات والرؤى.

 

ترى نوال أن الفن لا يجب أن يُقيد، وأنه رسالة وليس فقط تشكيلًا بصريًا. في كل لوحة رموز ورسائل، تبدأ من فكرة ثم تُصاغ بأمانة من خلال اللون والمادة. لحظة الإبداع عندها هي لحظة تأمل داخلي عميق، تسبقها طقوس ذهنية وتحضيرات متأنية، لأن الفن، في رؤيتها، ليس إنتاجًا بل ولادة.

 

شاركت في عدة معارض محلية ودولية، من بينها فرنسا ومصر، حيث اختبرت تفاعلات ثقافية مختلفة، واكتشفت كيف يُستقبل الفن من جمهور يتنوع في ثقافته ومرجعياته. رغم عدم تلقيها دعمًا مباشرًا من المؤسسات، إلا أن إصرارها وشغفها كانا وقود الطريق.

 

تعتبر نوال أن كل مدينة مغربية تدخلها تُضيف إلى ذاكرتها البصرية، فالسفر بالنسبة لها شكل من أشكال الإبداع، والمغرب بثقافته ومعماره وألوانه يظل نبعًا دائمًا للإلهام. أما عن التحديات، فهي لا تراها عوائق، بل دروسًا وصقلًا ذاتيًا، فالفن عندها ترياق للتوازن الداخلي.

 

تحلم نوال بإقامة معرض يمزج بين الفن التشكيلي والموسيقى والشعر، ليكون تجربة حسّية متكاملة تُعبّر عن الإنسان في أبعاده المختلفة. لا تنكر انبهارها بالفن الرقمي، لكنها ما تزال تفضل اللمسة المادية، وتؤمن أن الفن حوار جسدي مع اللون والملمس.

 

نوال دارغم تنتمي لجيل من الفنانين الذين يرون أن اللوحة ليست منتجًا، بل حالة وجودية، وأن الإبداع ليس ترفًا، بل ضرورة. تحلم بعرض أعمالها في باريس، حيث تُحاور الأرواح الجمال بلغة لا تحتاج إلى ترجمة. وبين الفرشاة والقلب، تبقى لوحاتها صفحات من ذاتها، تُنصت فيها الحياة لصوت الألوان.

 

Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء

الصحف الورقية… هل هي في طريق الانقراض؟

مع الحدث

المتابعة ✍️: ذ لحبيب مسكر

 

حتى وقتٍ قريب، كانت الجريدة الورقية علامة فارقة في يد كل مثقف، بل وحتى في يد من يريد فقط أن يبدو مثقفًا. كانت رفيقة المقاهي، تُعرض على الطاولات بكل أناقة، وتُغري الزبائن بالجلوس والقراءة واحتساء فنجان قهوة بهدوء. لم يكن غريبًا أن تجد على طاولة واحدة “الأحداث المغربية”، “الاتحاد الاشتراكي”، “العلم”، و”الصباح” جنبًا إلى جنب، في مشهدٍ يختزل يومًا إعلاميًا متكاملاً.

 

لكن المشهد تغيّر. اليوم، لم تعد الجريدة الورقية جزءًا من الروتين اليومي، لا في المقاهي ولا في الإدارات، ولا حتى في يد المارة. عوضًا عنها، صار رمز “الويفي” هو وسيلة جذب الزبائن، وصارت الأخبار تُستهلك بنقرة على الهاتف الذكي، لا بطيّ صفحة من الورق.

 

أزمة متعددة الأوجه

 

الحديث عن “انقراض” الجرائد الورقية ليس مجازيًا. الإحصائيات تؤكد التراجع الحاد في أرقام التوزيع، وانخفاض الإقبال على الاشتراكات. حتى الأكشاك، التي كانت تعجُّ بالعناوين، صارت تكتفي بعدد محدود من النسخ، إن وُجدت. أما الصحافي الورقي، فبات يشتغل تحت ضغط الزمن والميزانية، وسط سؤال مقلق: من يقرأ لنا اليوم؟

 

السبب لا يعود فقط إلى تطور التكنولوجيا، بل أيضًا إلى تغير سلوك القارئ، وظهور بدائل رقمية فورية، تسبق الورق بالخبر والتحليل، وربما بالفيديو المباشر.

 

ورغم ذلك… هل انتهت مهمتها؟

 

قد يكون الحديث عن “الانقراض” متسرعًا. لا تزال الصحافة الورقية تحتفظ بمكانة رمزية، وشرعية قانونية، ومصداقية نسبية في نظر شريحة من القراء، خاصة من الجيل الأقدم. كما أن الجريدة المطبوعة تظل وثيقة مرجعية لا يمكن التلاعب بها بسهولة، على عكس منصات التواصل الاجتماعي التي تعجُّ بالإشاعات والمغالطات.

 

غير أن بقاء الصحف الورقية رهين بقدرتها على التجديد، وعلى التفاعل مع الواقع الرقمي، لا الوقوف ضده. فربما يكون مستقبلها في التخصص، أو في التحليل العميق، أو في أن تُصبح مكمّلة لا بديلة عن الصحافة الرقمية.

 

في الختام…

 

لم يعد حمل الجريدة في اليد عادة يومية، وربما صار نادرًا أن تجد شخصًا يقرأها في مقهى. لكن يبقى السؤال مفتوحًا: هل الصحافة الورقية في طريق الانقراض، أم أنها فقط في طور التحوّل؟ المستقبل وحده كفيل بالإجابة.

Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء سياسة

الجزء الرابع ضمن سلسلة مقالات تتناول موضوع: *”مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء”*. للكاتب د. مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الإستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية

 

مع الحدث

الكاتب:  د. مولاي بوبكر حمداني

 

الحكم الذاتي ما بين مداخل الثقافة، حقوق الإنسان والمصالحة الوطنية

استكمالا لنشر الورقة المرجعية التي أعدها الدكتور مولاي بوبكر حمداني، المتخصص في العلاقات الدولية ورئيس مركز التفكير الإستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، على أجزاء، وتحت عنوان: “مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء”.

حيث تناول في الأجزاء السابقة المداخل: الأممي، الدبلوماسي والسياسي، القانوني والتنموي.

نضع بين يدي القراء الجزء الرابع الذي يتناول مداخل الثقافة، حقوق الإنسان والمصالحة.

المدخل الثقافي: تثمين الهوية الحسانية كرافد أساسي للهوية الوطنية المتعددة

من المسلم به أن المدخل الثقافي بعداً جوهرياً وحساساً في أي مقاربة تهدف إلى تنزيل الحكم الذاتي بالصحراء، نظراً للعمق التاريخي والخصوصية المتميزة للمجتمع الصحراوي وثقافته الحسانية العريقة، التي تشكل بوتقة انصهرت فيها روافد عربية وأمازيغية وإفريقية، وتجلت في لغة (اللهجة الحسانية) وأدب (الشعر الحساني “لغن”) وموسيقى وفنون ونمط عيش وعادات وتقاليد ونظام اجتماعي متفرد.
الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك إن أي حل سياسي، لكي يحظى بالقبول والشرعية، يجب أن يعترف بهذه الخصوصية الثقافية، وأن يضمن حمايتها وتثمينها وتعزيزها، ليس ككيان منفصل أو منغلق، بل كجزء لا يتجزأ ومكون أساسي من الهوية الوطنية الغنية بتعدد روافدها وتنوع مكوناتها، كما أكدت على ذلك بوضوح ديباجة دستور 2011 التي تحتفي بالرافد الصحراوي الحساني إلى جانب الروافد الأخرى (العربية الإسلامية، الأمازيغية، الإفريقية، الأندلسية، العبرية، المتوسطية) التي شكلت الهوية الموحدة.
وإذا كانت مبادرة الحكم الذاتي في جوهرها تهدف إلى تمكين سكان المنطقة من تدبير شؤونهم بأنفسهم في إطار السيادة المغربية، فإن هذا يشمل بالضرورة، وبشكل أساسي، الشأن الثقافي والهوياتي لذلك يجب أن ينص نظام الحكم الذاتي والقانون التنظيمي المطبق له، على صلاحيات واضحة ومحددة للهيئات الجهوية المنتخبة (البرلمان والحكومة الجهويين) في مجال الثقافة، بحيث تشمل هذه الصلاحيات، على سبيل المثال لا الحصر:
الحفاظ على التراث المادي واللامادي الحساني وحمايته وتوثيقه وتثمينه (المواقع الأثرية، الخيام التقليدية، الحرف اليدوية، الشعر الشفهي، الموسيقى، الرقصات، الأمثال، الحكايات الشعبية، المخطوطات)؛ دعم وتشجيع الإبداع الفني والأدبي باللهجة الحسانية في مختلف المجالات (الشعر، الرواية، المسرح، السينما، الفنون التشكيلية)؛
العمل على إدماج الثقافة والتاريخ المحليين للمنطقة في المناهج التعليمية على المستوى الجهوي، بما يعزز معرفة الأجيال الجديدة بتراثها؛ دعم وسائل الإعلام المحلية، المكتوبة والمسموعة والمرئية والرقمية، الناطقة باللهجة الحسانية أو المهتمة بالشأن الثقافي الحساني؛
تنظيم المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية التي تحتفي بالموروث الحساني الغني وتعرف به على الصعيدين الوطني والدولي؛ وإنشاء وإدارة المؤسسات الثقافية الجهوية (متاحف، مكتبات، مراكز ثقافية، معاهد موسيقية وفنية).
من الأهمية بمكان التنويه الى أن الدولة قد اتخذت بالفعل خطوات مهمة في هذا الاتجاه، مثل إحداث قناة العيون الجهوية التي تبث برامج متنوعة باللهجة الحسانية، ودعم العديد من المهرجانات الثقافية الكبرى (مهرجان طانطان المصنف تراثاً عالمياً لامادياً من قبل اليونسكو، مهرجان السمارة، وغيرها)، ودعم الجمعيات المدنية النشطة في المجال الثقافي الحساني، والاهتمام الرسمي المتزايد بالتراث الشفهي الحساني وتوثيقه، بالإضافة إلى الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية إلى جانب العربية، مما يعكس التزام الدولة بالتنوع الثقافي واللغوي كمصدر غنى وقوة للمغرب.
وموجز القول هو إنه اذا كان تنزيل الحكم الذاتي سيوفر لاحقا الإطار المؤسسي والقانوني الأمثل لتعميق هذه الجهود وجعلها أكثر منهجية وفعالية، بحيث تصبح الهيئات الجهوية هي الفاعل الرئيسي في رسم وتنفيذ السياسات الثقافية المحلية، بالتشاور والتكامل مع السياسات الوطنية، فإنه لا يجب أن يُنظر إلى الثقافة الحسانية ليس فقط كإرث تاريخي يجب الحفاظ عليه من الاندثار، بل أيضاً كرافعة للتنمية المحلية (من خلال السياحة الثقافية والصناعات الثقافية والإبداعية) وعامل أساسي لتعزيز التماسك الاجتماعي والحوار الثقافي وبناء جسور التفاهم بين مختلف مكونات المجتمع في الجهة، وتقوية الشعور بالانتماء الوطني المبني على الاعتراف المتبادل والاحترام العميق للتنوع ضمن الوحدة.

المدخل الحقوقي: ضمان الكرامة، تعزيز الحريات، وترسيخ سيادة القانون

لاعتبارات متعددة تتقاطع فيها الأبعاد القانونية والأخلاقية والسياسية يكتسي المدخل الحقوقي أهمية محورية في عملية تنزيل مبادرة الحكم الذاتي من هنا بات ضمان وحماية حقوق الإنسان لجميع سكان الصحراء دون أي تمييز التزاماً قانونياً دولياً ووطنياً راسخاً للمغرب.
هذا الالتزام نبع من المقتضيات المتقدمة لدستور 2011، الذي كرس باباً كاملاً (الباب الثاني) للحريات والحقوق الأساسية، وأكد على سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الوطنية، وكذا عضوية المملكة في منظومة الأمم المتحدة، ومصادقتها على جل الاتفاقيات الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان (مثل العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وغيرها).
ومن جهة أخرى شكل تعزيز وحماية حقوق الإنسان على أرض الواقع في الأقاليم الجنوبية عنصراً جوهرياً لبناء جسور الثقة مع الساكنة المحلية، بما في ذلك أولئك الذين قد يحملون آراءً مختلفة، ومع المجتمع الدولي وهيئاته الحقوقية.
ومما لا شك فيه ان سجلا حقوقيا إيجابيا وموثوقا سيساهم بشكل كبير في تعزيز مصداقية المبادرة المغربية ويفند الادعاءات والمغالطات التي تسعى بعض الجهات لترويجها واستغلال ملف حقوق الإنسان لخدمة أجندات سياسية معادية تسعى لتعطيل هذا المقترح.
ومن ناحية ثالثة يجب أن يكون نظام الحكم الذاتي المقترح بحد ذاته إطاراً مؤسساتياً وقانونياً ضامناً ومُعززاً لحقوق الإنسان داخل الجهة، بحيث تتمتع هيئاته (التشريعية والتنفيذية والقضائية المحلية) بالصلاحيات والآليات اللازمة لضمان احترام الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين الخاضعين لولايتها.
لا يخفى على أحد أن المغرب قد قطع أشواطاً معتبرة في هذا المجال خلال العقدين الأخيرين، من خلال سياسة إصلاحية متدرجة شملت تعزيز الإطار القانوني والمؤسساتي لحماية حقوق الإنسان، وإنشاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة وطنية مستقلة تتمتع بالاعتماد الدولي (وضع “أ”)، وتفعيل لجانه الجهوية في العيون والداخلة التي تلعب دوراً هاماً في الرصد والتوعية ومعالجة الشكايات، ومن الثابت أيضا تفاعل المغرب الإيجابي والبناء مع آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان (زيارات المقررين الخاصين) والاستعراض الدوري الشامل، والرد على المراسلات وتقديم التقارير الدورية.
وعطفا على ما سلف تجدر الإشارة الى ان الأقاليم الجنوبية بدورها شهدت دينامية ملحوظة في مجال ممارسة الحريات العامة، حيث ينشط عدد كبير من الجمعيات المدنية، وتُنظم وقفات احتجاجية وتجمعات للتعبير عن مختلف المطالب، حتى تلك التي تتبنى مواقف معارضة للموقف الرسمي المغربي، وهو ما عكسه بدرجات متفاوتة تقارير المنظمات الدولية وبعض الدول.
مما تقدم يظهر أن تنزيل الحكم الذاتي يتطلب مواصلة هذه الجهود وتعميقها، من خلال:
ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان لدى جميع الفاعلين، وخاصة الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون والقضاة؛ ضمان استقلالية وحيادية القضاء المحلي الذي سيتم إنشاؤه في إطار الحكم الذاتي وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة؛
توفير آليات رقابة وتظلم فعالة ومستقلة ومتاحة للجميع داخل الجهة؛ ضمان الحماية الكاملة للحقوق الثقافية واللغوية للمكون الحساني كمجموعة ذات خصوصية؛
ومواصلة معالجة الإرث المتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي قد تكون وقعت في الماضي من كلا الطرفين، في إطار مقاربة شاملة للعدالة الانتقالية تجمع بين كشف الحقيقة وجبر الضرر الفردي والجماعي والمساءلة (مع مراعاة مقتضيات المصالحة) وضمانات عدم التكرار، استلهاماً للمبادئ التي أرستها تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة.
ومجمل القول إن بناء ثقافة وممارسة راسخة لسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية ليس فقط واجباً قانونياً وأخلاقياً، بل هو اختيار واستثمار في بناء مجتمع ديمقراطي ومستقر، قادر على احتضان مشروع الحكم الذاتي وضمان نجاحه.

المدخل المرتبط بالمصالحة:
تجاوز إرث الماضي، بناء الثقة، وتأسيس العيش المشترك

لا ريب في أي حل سياسي أو تسوية قانونية، مهما كانت متقدمة ومتقنة، أن لا يمكن أن تحقق سلاماً حقيقيا ما لم تترافق وتتأسس على عملية مصالحة وطنية ومجتمعية شاملة، تهدف إلى تضميد جراح الماضي الأليم، وتجاوز الانقسامات والصراعات التي خلفها النزاع، وإعادة بناء جسور الثقة المفقودة، وتأسيس مستقبل مشترك قائم على الاعتراف المتبادل والاحترام والتسامح والعيش المشترك بين جميع مكونات المجتمع في الصحراء، وبينهم وبين باقي مكونات الأمة المغربية.
ومن المسلم به ان نزاع الصحراء الذي امتد لعقود قد خلف آثاراً إنسانية واجتماعية ونفسية وسياسية عميقة على النسيج المجتمعي، سواء داخل الأقاليم الجنوبية أو بشكل خاص ومأساوي في مخيمات تندوف فوق التراب الجزائري، وترك إرثاً من المعاناة والضغائن والمظالم المتبادلة يتطلب معالجة شجاعة وحكيمة ومتأنية.
ويتوقع من مدخل المصالحة خلق الظروف الملائمة والمناخ النفسي والاجتماعي المواتي لطي صفحة الماضي بكل تعقيداته، والتوجه نحو المستقبل بروح من التفاؤل والأمل المشترك بحيث تتضمن عملية المصالحة هذه أبعاداً متعددة ومتشابكة:
أولاً، معالجة قضية المحتجزين في مخيمات تندوف، من خلال تسهيل عودتهم الطوعية والآمنة والكريمة إلى وطنهم الأم المغرب، وضمان إعادة اندماجهم السلس والكامل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتوفير الدعم اللازم لهم للتغلب على الصعوبات التي قد تواجههم.
ثانياً، معالجة الإرث المتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي قد تكون ارتكبت في الماضي من قبل مختلف الأطراف المتورطة في النزاع (بما في ذلك الاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإعدامات خارج نطاق القضاء، وغيرها)، ويتطلب ذلك تفعيل آليات العدالة الانتقالية (Transitional Justice) التي تجمع بين الحق في معرفة الحقيقة (Truth)، والحق في جبر الضرر للضحايا وعائلاتهم (Reparation)، والحق في المساءلة والمحاسبة (Accountability) للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة (مع مراعاة ضرورات السلم الاجتماعي ومتطلبات عدم الإفلات من العقاب في الجرائم الدولية)، والحق في الإصلاحات المؤسسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل (Guarantees of Non-recurrence) .
انطلاقاً من الاعتبارات السابقة راكم المغرب تجربة رائدة ومشهوداً لها دولياً في مجال العدالة الانتقالية من خلال عمل هيئة الإنصاف والمصالحة بين عامي 2004 و2005، التي تناولت ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب بين عامي 1956 و1999، ويمكن الاستلهام بشكل كبير من منهجية هذه الهيئة وآلياتها وتوصياتها في بلورة مقاربة للمصالحة خاصة بسياق نزاع الصحراء، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات هذا النزاع وتحدياته.
ثالثاً، حفظ الذاكرة الجماعية (Collective Memory) بكل تناقضاتها وتعدد رواياتها، ليس بهدف إثارة النعرات، بل بهدف استخلاص العبر والدروس من الماضي وتكريم الضحايا ومنع النسيان، من خلال إنشاء متاحف أو نصب تذكارية أو أرشيفات تاريخية، وتشجيع البحث العلمي والتاريخي النزيه حول فترة النزاع.
رابعاً، تعزيز الحوار المجتمعي وبناء الثقة على المستوى المحلي، من خلال تنظيم لقاءات حوار بين مختلف مكونات المجتمع الصحراوي، بما في ذلك العائدون من تندوف، وتشجيع المبادرات المحلية للمصالحة والتسامح التي يقودها المجتمع المدني والزعمات التقليدية من شيوخ القبائل، والشخصيات الدينية، والنسائية، والشبابية.
خامساً، يجب أن تشمل المصالحة أيضاً البعد النفسي والاجتماعي، من خلال توفير برامج الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا وعائلاتهم، ومساعدتهم على تجاوز الصدمات النفسية المرتبطة بالنزاع والعنف، إن تحقيق المصالحة ليس عملية سهلة أو سريعة، ولا يمكن فرضها من فوق، بل هي مسار طويل وشاق ومعقد، يتطلب إرادة سياسية قوية وصادقة من أعلى المستويات، ومشاركة واسعة من جميع فئات المجتمع، وصبراً ومثابرة والتزاماً من الجميع، ولكنه يبقى شرطاً ضرورياً وأساسياً لتحويل اتفاق الحكم الذاتي من مجرد تسوية سياسية أو قانونية فوقية إلى عقد اجتماعي جديد ومتين، يرتكز على قناعة ورضى وقبول جميع مكونات المجتمع، ويطوي صفحة الماضي الأليم بكل مآسيه، ويفتح آفاقاً واعدة لمستقبل يسوده السلام والعدل والتعايش والتنمية المشتركة لجميع أبناء الصحراء في ظل مغرب موحد، قوي، ديمقراطي، ومتصالح مع ذاته ومع تاريخه..

Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء

حين تنطق الألوان بما يعجز عنه الكلام

 

محمد أولاد ملوك … حين تنطق الألوان بما يعجز عنه الكلام

✍️ هند بومديان

 

في حيٍّ بسيط من مدينة سلا، وداخل عوالم الألوان المتشابكة والمشاعر الصامتة، وُلدت تجربة الفنان محمد أولاد ملوك. ليس من أولئك الذين قادتهم القاعات الأكاديمية نحو ريشة الرسم، بل من أولئك النادرين الذين أنصتوا لنداء خفيّ يسكن الداخل، ولبّوه بإصرار فنيّ وصدق وجودي. فنان تشكيلي ذاتي التكوين، سلك درب المعرفة وحده، من خلال الملاحظة العميقة، والتأمل الصادق، والتجريب الحرّ، حتى صار الفن جزءًا من كيانه، لا فعلاً فقط بل هوية ومصير.

 

منذ اللحظة الأولى التي جذبته فيها التفاصيل الصغيرة – ظل شجرة، نظرة وجه، امتداد لون على جدار قديم – أدرك أن له عينا ثالثة ترى ما لا يُرى، وتشعر بما لا يُقال. وهكذا، بدأ يرسم ليحاور العالم، وليداوي ذاته، وليُبقي على الضوء حيًا وسط العتمة.

 

لا يضع محمد أولاد ملوك حدودًا بينه وبين ما يخلق. يعتبر أن الفن الحقيقي لا يقبل الأقفاص. إنه فضاءٌ شاسع، لا يعترف إلا بالصدق، ولا يمنح روحه إلا لمن آمن به كخلاص. لوحاته لا تُقرأ فقط بالبصر، بل تُلامس بالقلب. بين ضربة ريشة وأخرى، تختبئ رسائل عن الوطن، عن الإنسان، عن الوجع العابر، وعن الحلم المقاوم.

 

مسيرته لم تكن سهلة. واجه الإقصاء، وغياب الدعم، وصمت المؤسسات. لكنه آمن أنّ ما يُخلق من الداخل، لا يحتاج إلى اعتراف خارجي ليكون حقيقياً. حمل فنه في قلبه، وعرضه في أماكن صغيرة وكبيرة، داخل المغرب وخارجه، وتلقى أصداءً أعمق من الجوائز، كانت تعني له أن رسالته وصلت، وأن صوت الألوان قد سُمع.

 

أعماله ليست نسخًا بصرية لواقع متكرر، بل محاولة دائمة لالتقاط ما وراء الواقع: الإحساس، الفكرة، الارتباك، الحنين، وحتى الأسئلة. كثيرًا ما يذوب في لحظة الرسم، يتماهى مع موسيقاه، ويتحول إلى شاهد ومُرتّل في محراب الفن، تاركًا للريشة حرية أن تحكي ما سكت عنه اللسان.

 

محمد لا يرسم للترف، ولا للشهرة، بل ليترك في هذا العالم أثرًا صادقًا، ليقول إنه كان هنا، حاملاً اللون كما يحمل الشاعر قلمه، والناي أنينه. يحلم بمعرض دائم، مفتوح للجمهور، للأطفال والطلبة، لأنّه يرى في الفن قوة تغيير، لا نخبوية، بل مشاركة في بناء الوعي، وتحرير الروح من قيودها.

 

في زمن يُسابق السرعة، يختار محمد الإبطاء. يتأنى، يتأمل، ويعيد للعين دهشتها الأولى. هو ابن البادية، وابن المدينة، وابن التجربة الحرة. فنان لا يضع توقيعه فقط أسفل اللوحة، بل يتركه في ذاكرة كل من يقف أمام عمل له، ويشعر للحظة أنّ الجمال لا يزال ممكنًا، وأن الفن لا يزال صوتًا نقيًا في عالم مكتظ بالضجيج.

 

في النهاية، لا يسأل محمد كثيرًا عمّا قدّمه، بقدر ما يهمه سؤال آخر: هل لامس أحدهم شيئًا من ذاته في لوحته؟ فإن كانت الإجابة “نعم”، فقد اكتملت الرسالة.

 

Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء مجتمع

العزلة الاجتماعية في زمن التكنولوجيا: حين يصبح القرب وهماً

 

العزلة الاجتماعية في زمن التكنولوجيا: حين يصبح القرب وهماً

✍️ هند بومديان

لم يعد الإنسان في هذا العصر بحاجة إلى السفر أو انتظار الرسائل ليتواصل مع أحبّائه. بضغطة زر، يمكنه أن يرى من يشاء، ويُحادث من يشاء، في أي لحظة شاء. ومع ذلك، لم يكن الشعور بالوحدة يوماً أقسى مما هو عليه اليوم.

 

في زمنٍ تغوّلت فيه التكنولوجيا على تفاصيل الحياة، تحوّلت العلاقات الإنسانية إلى روابط افتراضية سطحية، مجرّدة من الدفء والصدق. أصبح “الحضور” لا يتجاوز إشعار “متصل الآن”، و”الاهتمام” لا يتعدّى رموزاً باردة تُرسل في ثوانٍ. غابت النظرات، وضاعت الأحضان، واختفت الحوارات العميقة التي كانت تُبنى في جلسات مسائية هادئة، على شاي دافئ أو ركن مقهى شعبي بسيط.

 

العزلة اليوم لم تعد مرتبطة بمكان خالٍ أو غرفة مظلمة، بل صارت حالة نفسية يعيشها الإنسان بين الزحام، وسط “الأصدقاء الرقميين”، و”العائلة المتصلة دائماً”. نتشارك الصور والقصص، لكننا لا نتقاسم الألم. نضحك مع الآخرين على الشاشات، ونبكي وحدنا في صمت مطبق.

 

الأدهى أن التكنولوجيا خدعتنا، فبقدر ما قرّبت المسافات، زادت من المسافات القلبية. صرنا نتحدث كثيراً، لكن لا نتواصل حقاً. نُخبر الناس بما نريدهم أن يعرفوه، لا بما نشعر به فعلاً. نرتدي أقنعة رقمية، نُخفي بها هشاشتنا واحتياجنا لمن يُنصت، لا لمن يُعلّق.

 

جيل بأكمله ينشأ على العزلة المختبئة خلف الشاشات، يفتقد لمهارات التواصل الحيّ، لا يعرف كيف يُصغي، أو يفتح قلبه. جيل لا يُجيد الاعتذار وجهاً لوجه، ولا يعرف كيف يُمسك بيد حزين، أو يواسي أمًّا متعبة، أو يستمع لصديق ينهار.

 

لقد آن الأوان أن نعيد النظر في علاقتنا بهذه التكنولوجيا التي أصبحت تلتهم أرواحنا ببطء. لا عيب في استخدامها، لكن العيب أن نستبدل بها الإنسان. أن نُرضيها على حساب أحاسيسنا، ونُغذّي بها وهم القرب بينما أرواحنا تتباعد.

 

لنعُد إلى أبسط الأشياء: جلسة صادقة، مكالمة طويلة بصوت دافئ، نظرة محبة لا تُترجمها شاشة. لنعُد إلى إنسانيتنا، قبل أن نصبح آلات نتحرك بتقنيات فائقة… لكن بقلوب فارغة.

Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء

حين تصير الألوان وطنا و الفن حكاية حياة .


فاطمة ابراهيمي … حين تصير الألوان وطنا و الفن حكاية حياة .

 

✍️ هند بومديان

 

في المغرب، حيث يلتقي عبق التاريخ بنبض الحاضر، ولدت فاطمة لبراهيمي كفنانة قبل أن تُنادى بهذا الاسم. منذ نعومة أظافرها، كانت الألوان تلون أحلامها، وكانت الأوراق البيضاء مسرحًا لأحلام صامتة تنبض بالحياة. لم تتح لها الظروف أن تطرق أبواب المدارس الفنية، لكنها ارتادت أكاديمية الشغف والتجريب، وقطعت مسارًا فنيًا واثق الخطى، تغذيه الملاحظة، ويصقله الإصرار.

 

طفلة كانت ترسم على ضوء الأمل، تمسك القلم الجاف والألوان المائية في حضرة والدها وإخوتها، وترسم على الورق كما لو كانت تكتب سطور قدرها القادم. إلا أن اللحظة الفاصلة كانت سنة 2017، حين مدت يدها لأول مرة نحو “الكنفاه”، لتبدأ رحلتها الحقيقية، مرسومة بخيوط الأمل ودهشة البدايات. كان لمشاركتها في تزيين المدارس العمومية أثر لا يُنسى، ليس فقط على الجدران، بل على روحها. هناك، حيث التقت ضحكات الأطفال برسوماتها، اكتشفت أن الفن رسالة، وأن البهجة التي يزرعها اللون أقوى من كل الظروف.

 

تجربتها نابعة من ذاتها، من تمرّدها على حدود التكوين الأكاديمي، ومن ولعها بالاكتشاف. لم تكن فاطمة تبحث عن مدرسة، بل عن روح تعبّر عنها، وهو ما وجدته في فن “الفسيفساء” أو “البكسل آرت”، ذاك الفن الذي يجعل من التفاصيل الصغيرة مشهدًا مكتملًا. هكذا أصبحت كل لوحة تنبض بالصبر والدقة، وتحمل في ثناياها مشهدًا حياتيًا يُحكى دون كلمات.

 

لم تكن البداية ضبابية كما يظن البعض، بل مرسومة بخطٍّ أول ابتدائي، حين نالت اعترافًا من أستاذها بموهبتها. كان ذلك التتويج البريء هو الشعلة التي أضاءت مسارًا لم ينطفئ. ومن هناك، تحوّلت الأوراق إلى جداريات، والقلم الجاف إلى ألوان أكريليك، ثم إلى أسلوب بصري خاص، يتنقل بين رمزية الأنمي، وألوان الطيور، وتفاصيل المرأة في علاقتها بالعالم.

 

فاطمة لا ترسم فقط لتملأ الفراغ، بل لتصنع حوارًا خفيًا بين الذات والآخر. أعمالها تنبض بواقعية شفافة، وحنين طفولي، ورسائل نسوية رقيقة. هي تكتب بلوحاتها ما لا يُقال، وتترك للمتلقي حرية التأويل، دون أن تفرض عليه قراءتها الخاصة. تُفضل لحظة العزلة أثناء الرسم، وتأنس لموسيقى الزمن الجميل، التي ترافقها في ولادة كل لوحة.

 

كانت أولى خطواتها العلنية في معرض جماعي بالمسرح الملكي، حيث تنفّست أعمالها هواء العرض الأول، ونالت استحسان الجمهور ودفء الاعتراف. توالت المشاركات بعدها، وكان من أبرزها معرض تضامني لفائدة ضحايا زلزال الحوز، حيث اجتمع الفن بالإنسانية، ليؤسس لحظة صدق توازي جمال الألوان.

 

ورغم الصعوبات، لم تكن تنتظر دعمًا مؤسساتيًا، بل راهنت على الاستقلالية، وعلى أصدقاء الفن الذين مدوا يدهم دون مقابل. إنها ترى في مراكش فضاءً يلهمها دومًا، مدينة تتنفس الفن في كل تفاصيلها، وتُغذي روحها بشغف لا ينضب.

 

فاطمة تؤمن أن الساحة التشكيلية المغربية حبلى بالطاقة، لكنها ما تزال تحتاج لمن يرعاها، ينظمها، ويمنح الشباب فرصًا أكثر. أما عن حلمها، فهو أن تؤسس مدرسة للفن، تكون بيتًا لكل من يريد التعبير، خصوصًا من ذوي الهمم، الذين يستحقون أن يُصغى إلى أرواحهم من خلال الألوان.

 

في لوحاتها، كما في حياتها، تسير فاطمة لبراهيمي بخطى ثابتة، لا تتعجل المجد، لكنها تعرف يقينًا أن الجمال الحق لا يُرى في الوهلة الأولى، بل يُكتشف مع الصبر… تمامًا كما تكتمل فسيفساء الحياة.

 

Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء مجتمع

حين يتنفس اللون … بريشة الروح 

ياسين الشرقاوي …. حين يتنفس اللون … بريشة الروح

 

✍️ هند بومديان

 

في حضن بيت تنبعث منه نغمة العود ورائحة الفحم الممزوج بالجرافيت، وُلدت ملامح الفنان ياسين الشرقاوي السلامي. لم يكن الفن بالنسبة له اختيارًا بقدر ما كان ميراثًا روحيًا، انساب إليه كما تنساب الدماء في الوريد، ليصير اليوم أحد الأسماء التي تكتب حضورها بحبر الصدق والالتزام.

 

نشأ ياسين في بيئة تشكّلت فيها الموهبة كعنصر يومي من تفاصيل الحياة، فكان الوالد رسامًا وموسيقيًا، وكانت الجدران بمثابة الصفحات الأولى التي تسكنها المحاولات الأولى. منذ تلك اللحظة، التحم الطفل باللون، وشرع في بناء علاقة سرمدية مع القماش والفرشاة، علاقة لم تكن يومًا هواية، بل بحثًا دائمًا عن المعنى، عن الذات، وعن جوهر الأشياء.

 

رغم أنه لم يتتلمذ أكاديميًا داخل معاهد الفن الرسمية، إلا أن تكوينه تشكّل من القراءة المتواصلة، والتأمل، والتجريب، واحتضان الفشل كجزء من العملية الإبداعية. تأثر بالمدرسة الواقعية لكنه لم يتوقف عندها، بل جعل منها أرضية أولى نحو هوية فنية أكثر حرية وعمقًا، حيث تتقاطع التجارب الشخصية مع الروح الكونية.

 

في أعماله، لا تجد مجرد أشكال أو ألوان، بل تجد حياة أخرى تنبض تحت الطبقات، تحكي عن الحب، عن الوحدة، عن الغموض، وعن صراع الإنسان مع أسئلته الوجودية. هو فنان لا يرسم العالم كما هو، بل كما يشعر به؛ يخلق من الأشياء العادية لغة غير عادية، ويجعل من اللوحة امتدادًا لصوته الداخلي.

 

إلى جانب كونه فنانًا تشكيليًا، يعمل أستاذًا للفنون، وهو ما يعمّق رسالته التربوية ويجعل من الفن مشروع حياة لا مجرد ممارسة. يرى في كل طفل بذرة فنان، وفي كل لحظة درسًا، وفي كل لوحة فرصة للتحرر.

 

شارك في معارض وطنية ودولية، وراكم تجربة تنبني على التواضع والإيمان بأن الفن ليس غاية بل مسار مستمر. لم يكن حلمه يومًا الشهرة، بل البصمة. أن يُترك أثر، أن تتحول لوحاته إلى ذاكرة جمعية، وأن يشهد يومًا افتتاح متحف يحتضن رحلته، وهو على قيد الحياة.

 

ياسين الشرقاوي السلامي، ليس مجرد اسم فني، بل هو صرخة داخلية، تمرد نبيل، وحكاية روح تسير بثبات نحو الضوء، رغم كل عتمة.

 

 

Categories
أخبار 24 ساعة الواجهة ثقافة و أراء صوت وصورة فن

“RS6”.. تعاون مغربي–إسباني يجمع DYSTINCT وMorad في قصة حب منكسرة بثلاث لغات

بقلم: حسيك يوسف

في تعاون فني لافت، جمع النجم المغربي-البلجيكي DYSTINCT بمغني الراب الإسباني ذي الأصول المغربية Morad، صدرت أغنية “RS6″، التي سرعان ما تصدّرت الترند المغربي وأثارت تفاعلًا واسعًا على منصات التواصل.

الأغنية التي تتناول خيبة الحب والخذلان، قُدّمت بثلاث لغات: الدارجة المغربية، الإسبانية، والفرنسية، مما أضفى عليها طابعًا عالميًا وإنسانيًا. وجاء الكليب المصوّر من أحد أحياء برشلونة بلمسة واقعية تعكس بساطة الفنانَين وارتباطهما بجذورهما الشعبية.

“RS6” ليست مجرّد أغنية عاطفية، بل تأكيد جديد على الحضور المتزايد لـDYSTINCT في المشهد الموسيقي العالمي، بعد نجاحه الكبير في “يا بابا” إلى جانب French Montana.

 

Categories
أخبار 24 ساعة الواجهة ثقافة و أراء صوت وصورة فن

سيمو راني… صوت شعبي يُجدّد التراث المغربي ويمنحه روحاً معاصرة

بقلم حسيك يوسف

في زمن تتسارع فيه وتيرة الموسيقى الحديثة، يُطل الفنان سيمو راني كأحد الأصوات المتميزة التي اختارت الوفاء للتراث المغربي الشعبي، من خلال إعادة توزيع وغناء روائع الأغنية المغربية الأصيلة، مانحًا إياها نَفَسًا جديدًا يجمع بين أصالة الماضي وحداثة الحاضر.

ينحدر سيمو راني من الحي المحمدي، مهد الطرب الشعبي وروح الأغنية المغربية، وبدأ مشواره الفني سنة 1999 بخطى ثابتة وإصرار كبير، رغم التحديات والصعوبات التي واجهها في بداية الطريق. وقد تميز بأداء فني متمكن، جعل كبار رواد الأغنية الشعبية يعبرون عن إعجابهم بموهبته، متنبئين له بمستقبل مشرق في هذا اللون الفني.

أصدر أول ألبوم له سنة 2012 بعنوان “زواج اليوم صعاب – مال حبيبي مالو”، ليواصل بعدها رحلة فنية غنية بالعطاءات، تمثلت في مجموعة من الأعمال التي لاقت استحسان الجمهور، من بينها:

2013: الشخدة الشعبية

2014: الحاجبة

2015: كشكول شعبي

2017: خليني هاني

2019: اشدني نولفو

2020: سواكن

2021: عيطة العمالة

2022: تهلاو في الوليدة

2023: على زين فيك

2024: كشكول شعبي سواكن

2025: يما يما كندير أنا سواكن

ولم تقتصر مسيرته على الإنتاج الفني فقط، بل شملت أيضًا جولات فنية ناجحة، أبرزها جولته في الإمارات سنة 2023، التي عكست الحضور القوي للأغنية الشعبية المغربية خارج الحدود.

يُعد سيمو راني اليوم من الفنانين الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية صون التراث الشعبي المغربي، وإيصاله إلى الأجيال الجديدة بلغة موسيقية معاصرة، دون التفريط في ملامحه الأصلية. فنانٌ برؤية واضحة، يكتب اسمه بثبات في سجل الأغنية الشعبية، ويُضيء دربها بمزيج من الوفاء والابتكار.

 

Categories
أخبار 24 ساعة أعمدة الرآي الواجهة ثقافة و أراء مجتمع

أن ترسم لتعيش… حكاية د.هند حارتي بين الألوان و الحياة

أن ترسم لتعيش… حكاية د.هند حارتي بين الألوان و الحياة

✍️ هند بومديان

من بين أزقة الدار البيضاء، وفي قلب الحياة اليومية الصاخبة، تنبض ريشة هند الحارثي بروح لا تعرف الانطفاء. لم يكن الفن محطة عابرة في حياتها، بل كان الوطن الأول، اللغة التي نطقت بها قبل الكلمات، والمأوى الذي احتمت فيه من تقلبات الزمن. رغم أن دربها الأكاديمي لم يسلك طريق الفنون الجميلة، إلا أن شغفها بالفن التشكيلي كان كالجذر الممتد عميقًا في التربة، ينمو بصمت حتى حين لم يره أحد.

 

في موسكو، حيث درست الصيدلة، لم تكن المعادلات الكيميائية وحدها من أثرت فيها، بل سحر المعمار، صقيع الأرواح، ودفء اللوحات المعروضة في متاحف المدينة. هناك، كانت تنظر إلى الجدران أكثر مما تنظر إلى الكتب، وتقرأ القصص في الوجوه المرسومة أكثر من السطور المطبوعة. فنانة بالفطرة، تلقت تكوينها من الحياة، من الحزن والفرح، من التأمل والانكسار، من لحظات القوة والضعف.

 

أعمالها ليست تقليدية، ولا تخضع لوصفة جاهزة أو مدرسة واحدة، بل هي مزيج من التجريب والبوح العاطفي، حيث الألوان تسيل بحرية، والخامات تتآلف لتنسج رسالة. وجوه النساء، الخطوط الحادة أحيانًا والناعمة أحيانًا أخرى، والأقمشة المعاد تدويرها، كلها ليست مجرد مواد، بل ذرات من روحها المبعثرة على القماش.

 

لا تبحث هند عن الألقاب ولا تلهث خلف التكريمات، فهي تؤمن أن عيون المتلقي حين تدمع أمام لوحة، أو حين يطيل النظر في تفصيلة بسيطة، هو أعظم وسام يمكن أن يعلّق على صدر الفنان. الفن بالنسبة لها ليس ترفًا، بل ضرورة، صرخة من الأعماق أو همسة فيها شفاء. وقد عاشت هذا المعنى وهي ترسم لوحاتها في لحظات شخصية حرجة، فكانت اللوحة حضنًا والفرشاة طوق نجاة.

 

بين العديد من الملتقيات و  المعارض الكبرى والفضاءات البسيطة، حملت هند أعمالها كما يحمل المرء قلبه في كفه: بخوف، بشغف، وبكثير من الأمل. كل معرض كان بوابة جديدة، وكل تفاعل مع جمهور مختلف كان مرآة جديدة لرؤية الذات. المغاربة يتذوقون فنها بعاطفة صادقة، بينما يقرأه الأوروبيون بعين تحليلية، لكن الجميع يشترك في الإحساس بأن وراء هذه اللوحات امرأة تحكي شيئًا أعمق من الصورة.

 

حين تتحدث عن الفن، تتحدث عن مقاومة صامتة. مقاومة الصورة النمطية، مقاومة التهميش، مقاومة النسيان. تراه كأداة تغيير، وسيلة للحوار، بل وشكلًا من أشكال العدالة. ولهذا تحلم أن تعرض أعمالها في فضاءات عالمية، ليس فقط لتنال الاعتراف، بل لتكون جزءًا من تلك المعركة النبيلة التي يخوضها الفن في سبيل الحرية والوعي.

 

ليست د. هند حارتي فنانة تبحث عن الضوء، بل هي الضوء نفسه، يشع من داخلها على القماش، وعلى العالم. في كل ضربة فرشاة، حكاية. في كل لون، نبض. وفي كل معرض، حياةٌ جديدة تولد من رحم الفن.