جاري التحميل الآن

نوستالجيا …..في حياة الشهيد مصطفى المعني ورفقة دربه في النضال الحاجة الزوهرة التي أسلمت الروح إلى ربها خلال هذا الأسبوع.

مع الحدث يوسف الجهدي

في ذكرى استشهاده، كتبت مقالا عن المقاوم مصطفى المعني، نشرته بجريدة الإتحاد الإشتراكي بتاريخ ثامن يوليوز سنة 1989.
وبالمناسبة، فالشهيد رحمه الله عم زوجتي
السكليس البسيط الذي صنع المجد
رفقة العائلة هاجر مصطفى من البادية وهو مازال صغيرا يعاند الزمن من أجل البروز والظهور، صقلته حرارة البادية وصدقها الصافي. حل بالبيضاء يبحث عن هوية جديدة، عن اسم جديد، فالذين يعرفون مصطفى عن قرب، لمسوا فيه العناد وأنفة نادرة .
كانت كل المؤشرات تدل عن قرب ولادة جديدة، خاصة في تلك الظروف العصيبة التي كانت تجتازها بلادنا آنذاك .
احترف، ومن حيث لا يدري مهنة (السيكليس)، بإحدى أزقة بوشنتوف، ولقد كان المحل الضيق الصغير الذي يحمل رقم 41، بداية متقدة للقاء بين رفقاء الدرب الطويل. كان هذا المكان قلبا نابضا لرجال لم يعد يهمهم سوى العمل على مقاومة الاحتلال، وبحث سبل الفعل الحقيقي، يستقطب كل ساعة ضمائر حية، من بينهم أحمد الراشيدي، الذي سجل له التاريخ وقفته الطويلة، يأتي من المدينة القديمة، وبالتحديد من درب العميين. كان الراشيدي عنوانا للإخلاص، وظل واقفا إلى أن نفذ في حقه الحكم بالإعدام، بعد اتهامه بقتل أحد الخونة الذين اتسعت أحلامهم المريضة. كانت ثلاثة أشهر كافية لإلقاء القبض عليه، وتنفيذ الحكم الذي سيظل إحدى الملامح الحقيقية لنوايا الاستعمار .
رفض أحمد الراشيدي وقت تنفيذ الحكم القاسي، أن يضع العصابة على عينيه، ليظل وحتى آخر لحظة من حياته يرى فضاء هذا البلد، ويعانق سيل الرصاص. إنها قمة الانتماء، قمة الارتباط بالهوية الحقيقية لأبناء هذا الوطن .
في ظل هذه الأجواء، تربى مصطفى، تربى في أوج العطاء الوطني، خاصة وأن عائلته بكاملها كانت واقفة ضد الاستعمار، فابن عمته أحمد الراشيدي هذا، أعطاه الدرس الأول، والحياة والمعاناة اليومية، والحس الوطني، والأفق الحالم، وهذه الأشياء كلها، مكنته من الارتباط بالقضية. الفـــــــــــعل والاستشهــــــــــاد
بالرغم من توفره على حانوت صغير، فمصطفى ظل يبحث عن مورد آخر للحياة، ليتمكن من المساهمة في شراء الأسلحة رفقة إخوته وأصدقائه، وهكذا عمل بشركة (ميفر) للنجارة، وعمل فيها نجارا بسيطا، وذلك سنة 1947، وعمره آنذاك لا يتجاوز العشرين سنة. مكنه عمله الجديد هذا من شراء حانوت آخر، امتهن فيه النجارة، وكان الانفجار الذي حدث (بمارشي سنطرال)، والذي وقع بمرس السلطان، فرصة قاسية لمعانقة القضبان، وبداية للسوابق التي تراكمت عبر السنين، ليضع المستعمر أعينه على هذا الرجل الآتي من دوار (الحباشة) قبيلة أولا حريز. عمل المستعمر وبطرق خاصة على إدخال أخوين ليتربصا به، ولمعرفة كل خطواته، حيث طلبا منه العمل في حانوته الجديد، لكن، ولحسن الصدف، وصدق طويته، قامت شائبة بينهما، ليتمنكن أحدهما من طعن الآخر ويفتضح الأمر، ليتخلص مصطفى من هذا الانسلال إلى حياته الخاصة .
تلقى مصطفى درسا جديدا، دفعه إلى استبدال محل النجارة، بمحل لبيع الكتب، وكانت فرصة نادرة، مكنته من الاطلاع والمعرفة وإيهام المستعمر، حتى يتسنى لرفاقه المنضوين تحت لواء الهلال الأسود من الاجتماع، وتبادل الخبرات والاتفاق على الخطوات المقبلة .
ضريــــــــــبة الانتمــــــــــــــاء
كانت رحلته مع المعتقلات ورجال البوليس وقاعات المحكمة طويلة ومتعددة، ولم يعترف ولو مرة واحدة بانتمائه إلى الوطن وإلى القضية، مما عجز معه المستعمر على إثبات تلك الأفعال الجريئة التي كان يقوم بها صحبة الرفاق، والذين يعرفون (السيكلسيس) عن قرب علموا أن الموت كانت أقرب طريق إليه من تسليم نفسه وإفشاء سر القضية، ولم تكن هذه الطريق صعبة على مثل هؤلاء الرجال الذين أعطوا أكثر مما أخذوا.
تكلف مصطفى بقتل أحد الخونة، وكان وقتها على موعد مع الموت. نفذ عمليته في الساعة الثالثة والنصف زولا في الثامن من يوليوز سنة 1955، ولم تمر سوى نصف ساعة، حتى ألقي عليه القبض بعد التبليغ به، وجاءه رجال البوليس وهو بحانوته الصغير، وبذكاء كبير، استغفل مصطفى رجال البوليس، ليتمكن من وضع معطفه المحتوي على مسدسين، وحمل جلبابه لإبعاد التهمة، لكن مصطفى كان يدرك في قرارة نفسه أن الوقت قد حان للاستشهاد. وعلى متن سيارة البوليس لم يجد الشهيد صعوبة من امتصاص حبات الموت، ليظل كاتما للسر، وحتى يظل وفيا للعهد الذي قطعه مع القاضي بألا يعود إليه مرة أخرى .
هاجت وقتها ثائرة المستعمر، ولم يجد بدا من اعتقال أخويه أحمد المعني وبوشعيب المعني، وذلك لمعرفة خبايا أخيهما الذي فارق الحياة، دون أن يعطي ولو فرصة صغيرة للمستعمر، بان يعرف سراديب التنظيم وخلايا المقاومة. ظل الأخوان رهن الاعتقال يعانيان برودة الاسمنت وصلابة الحديد، فيما كان الأخ الآخر محمد المعني يقاوم وبعناد كبير سنين المصادرة التي حكم عليه بها .
وداعــــــــــا أيتهــــــــا الحيـــــــــــاة
فارق مصطفى الحياة قرب سوق القريعة بنواحي درب السلطان، فارقها بصمت بطولي، ليظل شهر يوليوز إحدى محطات ضوء لامعة في تاريخنا، بالرغم من المحاولات العديدة والمتلونة للحيلولة دون أن يجد جيل الاستقلال حبل ربط بينه وبين تاريخه، الذي يحاول الكثيرون وضعه في أرشيف النسيان، لكن يظل مصطفى ومعه آخرون عديدون نبراسا حيا ومضيئا في تاريخنا الحديث، ليعطي درسا في الاستماتة والمقاومة والوقوف ضد كل من أراد أن يسلب لهذا الوطن هويته .
مــــــــاذا تـــــــرك مصطفـــــى ؟
لم يترك هذا البدوي ـ البطل ـ إلا اسما منقوشا في التاريخ، وما أجمل وأصعب أن يكتب الإنسان اسما له على بوابة الوطن .
ترك مصطفى عائلة صغيرة، مكونة من زوجة وفية، ظلت واقفة بصمت وبمفردها، ظلت الزوهرة تصارع الزمن أزيد من عشرين سنة، دون أدنى التفاتة، تقاوم هي الأخرى من أجل أن تعطي الحياة لابنتي الشهيد سعاد ورشيدة، اللتين رضعتا حليب العناد، في زمن أصبحت فيه كل الأشياء لاتحمل أي لون وأي مذاق. فهنيئا لسعاد ورشيدة بانتمائهما لهذه العائلة التي أعطاها الأب اسما في التاريخ، اسما في المقاومة، اسما في لائحة الشهداء .

رحم الله عمي احمد وعمي بوشعيب واسكنهم فسيح جناته واطال الله عمر عمي سمحمد والله يجعل نضالهم في ميزان حسناتهم .
عزاؤنا واحد في هذا المصاب الجلل ..
“إنا لله وإنا إليه راجعون “

شارك هذا المحتوى:

إرسال التعليق

ربما فاتك