عز الدين بلبلاج
إنها خربوشة أو حادة الزيدية أو حويدة أو لكريدة أو زروالة، هي كلها أسماء لأمرأة واحدة طبعت نهاية القرن التاسع عشر بعد أن خلدتها الذاكرة الشعبية كأحد رموز الصمود، دفاعا عن قومها، ضد قائد متجبر اسمه عيسى بن عمر العبدي، فما هي قصتها؟ وكيف فتك القائد بقومها؟ وكيف وجدت نفسها سجينة في قبضة عدوها؟ وماذا كانت نهايتها؟
■ لم تكن انتفاضة أولاد زيد “قبيلة خربوشة”، منتصف سنة 1895، سوى حلقة من مسلسل الفتن والأهوال التي ضربت المغرب بعد وفاة السلطان المولى الحسن الأول، آخر كبار ملوك الإمبراطورية الشريفة، وبمجرد ما شاع خبر وفاة السلطان، وتولية المولى عبد العزيز أصغر أبنائه على العرش، حتى اشتعل المغرب تحت لهيب ثورات قبائل الرحامنة ودكالة وعبدة، لم تكن هذه القبائل تتحين إلا حدثا مثل هذا للانفلات من قبضة مخزن أثقل كاهلها بالضرائب والكلف، في ذلك الوقت، كانت البلاد تعيش تحت وطأة أزمة مالية خانقة منذ نصف قرن، واعتبر المخزن حينها أن أحد الحلول الأساسية يتمثل في فرض مزيد من الضرائب التي أصبحت المورد الأساسي لخزينة الدولة. ومازاد الطين بلة تعسف القواد وممثلو المخزن الذين وسعوا نفوذهم وراكموا الثورات على حساب القبائل، هكذا، ثارت قبائل الرحامنة أولا، تلتها دكالة فأزمور، وفي عبدة، وعلى مرمى حجر من إيالة القائد عيسى بن عمر، انتفضت قبيلة الربيعة ضد قائدها الشافعي بن الحافظي «فهدموا داره وهتكوا حريمه وفعلوا الأفاعيل التي تستحيي منها الإنسانية»، كما ينقل إبراهيم كريدية الباحث المتخصص في تاريخ آسفي.
* – من هو القائد عيسى بن عمر العبدى ؟ كان داهية في السياسة من حيث المراوغة فى الحوار ، ولد بدوار ثمرة بقبيلة البحاترة ، مارست عائلته السلطة عن طريق عمه احمد الذى كان شيخا ،ثم ترقى الى رتبة قائد على قبيلة البحاترة ، وبعد وفاته تولى القيادة ابن اخيه محمد بن عمر، وبعد تقدمه فى السن انتقلت القيادة الى اخيه عيسى بن عمر الذى كان يتسم بالشجاعة و الذكاء و الدهاء و هو فى سن 21سنة ، فكان فى حياة اخيه ،يمثله فى المراسم الولائية بمراكش ، هناك جانب آخر فى حياته ، كان حافظا للقرآن الذى أهله فى لعب دور القيادة ، و عند وفاة القائد محمد ، عين السلطان المولى الحسن الاول سنة 1879عيسى بن عمر قائدا على قبيلة البحاترة بظهير، الشىء الذى يؤكد نباهة القائد واهمية عائلته لذى المخزن ، وهي ما يسميها المؤرخون بالعائلات المخزنية . أول ما قام به عند تعيينه قائدا ، أقدم على إحصاء ثركة أخيه تحت اشراف المخزن ، فاشترى ممتلكاته نقدا من المخزن ، بمعنى أن القواد لم يكن ﻷبنائهم و عائلاتهم حق الإرث ، وقد تميز القائد عيسى بن عمر عن سلفيه، عمه وأخيه ، بأنه أدى وظيفة القيادة في ظرف دقيق وخطير من تاريخ المغرب، كان يعج بالكثير من المزالق والمخاطر بفعل التكالب الأجنبي، للنيل من مقدرات المغرب وسيادته، وقد نجح القائد عيسى إلى حد كبير في استثمارها في الارتقاء والتوسع بنفوذه، من مجرد قائد صغير على قبيلته الأم البحاترة إلى قائد جهوي كبير، يغطي بسلطته ويشمل بنفوذه وسطوته مجموع قبائل عبدة ودكالة وأحمـر والشياظمة، ” له مطلق السلطة في تعيين وعزل من يشاء من قواد هذه الجهات”، ولم يقف تألقه عند هذه الحدود ، بل تعداها لما هو أسمى وأعظم عندما اختاره المولى عبد الحفيظ (1908-1912) وزيرا لخارجية المغرب فور مبايعته سلطانا للجهاد والإنقاذ.
وقد لا نبالغ إذا ما أقررنا بأن جانبا غير يسير من تفوق القائد عيسى بن عمر، وصعود نجمه بدار المخزن، وما تبع ذلك من توسع في النفوذ والسيطرة، يرجع إلى ما استفاده من ثورة أولاد زيد ، فعوض أن تعصف به وبقيادته، فإنها أربحته مزيدا من النجاح والقوة والتألق والغنى، ومنحته فترة أخرى من القايدية، كانت أطول وأزهى من سابقاتها.
* – أسباب الصراع وثورة أولاد زيد قبيلة خربوشة
كثرت مطالب القائد لم يكن الأمر إلا ليثير حفيظة فخدة أولاد زيد بقبيلة البحاثرة، ضد القائد عيسى بن عمر، لقد كانت هذه الفخدة أكثر سكان إيالة العبدي تضررا من قساوة الطبيعة وقلة المحصول، كما كانت أكثرهم تذمرا من سياسة القائد الذي أرهق كاهلها بالكلف، بل سعى إلى تهميشها وإذلالها عندما أمر بتجريدها من الخيل والسلاح، فكان أن أوقد بيده نار حرب زعزعت مجموع إيالته طوال سنتين، إلتفت فخدة أولاد زايد حول زعيمها الحاج محمد بن ملوك الزرهوني، الذي لم يكن غير صهر القائد عيسى بن عمر، متزوجا من إحدى بناته. وفي هذه الثورة، ظهر اسم خربوشة، كشاعرة ﻹنتفاضة أولاد زيد، تجلس إلى المقاتلين وتنشدهم قصائد الحماسة وتحرضهم على الصبر والثبات في حرب القائد الطاغي:
ابغيت السيبة
ما ابغيت احكام
من دابا ثمانية أيام
على السي عيسى الثمري.
وتضيف خربوشة :
وزيدو أولاد زايــد راه الحـــــال بعـــيد
ضربة على ضربة حتى لباب سي قدور
ضربة على ضربة حـــتى لبوقشــــور
والسي قدور هذا هو حارس قصبة عيسى بن عمر، أما بوگشور فبئر في ضيعة القائد نفسه، ما يزال قائما إلى اليوم. وفي قصيدة أخرى مشابهة:
أنا عبدة لعبدة ولسي عيســـــــى لا
نوضا نوضا حتى لبوقشــــــــور
نوضا نوضا حتى دار السي قدور
وبما أن القائد عيسى بن عمر هو سبب مأساة قبيلة خربوشة، فلم ينج من هجوها له. وفيه تقول:
سير أعيسى بن عمر أوكال الجيفة
أقتال اخـــــــــــــوتو أمحلل الحرام
سير عمّر الظـــــالم ما يروح سالم
وعمر العلـــــفة ما تزيد بلا عــلام
ورا حلفت الجمعة مع الثلاث
يا عويسّة فيك لا بقات
وتقول ناقلة مأساة أهلها:
اللي ما عزاني ف كبيدتي نعرفو يكرهني
اتعالى اتعالى نسولك أداك الغادي
شكون سبابي حتى خرجت بلادي
قائد يفتك بقبيلة خربوشة
عندما بدا أن هزيمة أولاد زيد مجرد مسألة وقت فقط، تداعى الجميع إلى الصلح بمبادرة من عامل آسفي. ووقع الاختيار على مخزن كبير لتاجر إسباني بالمدينة يدعى خورخي، ليحتضن اجتماع الصلح يوم 9 نونبر 1895. لم يكتب لهذا الصلح أن يتم، بعد أن بيت القائد عيسى بن عمر في نفسه مكيدة خطيرة، وعزم على الفتك بأعدائه وسط الاجتماع وعلى رأسهم محمد بن ملوك الزرهوني زعيم ثورة أولاد زيد.
يقول الصبيحي في مخطوطه: «فلما حضروا بالمحل المذكور، حضر السيد عيسى ومعه أصحابه، ومعهم القائد بن علال والقائد الحاج مبارك بوشتى الدكاليان، موصّين منه أنه إذا أشار عليهم مدوا اليد في زعماء أولاد زيد، فبينما هم مجتمعون بالمخزن المذكور، وخطيب يخطب فيهم بالصلح الذي ندب لله إليه، إذ اخترط السيد عيسى سيفه وضرب به رأس الخطيب، فقسمه قسمين، فكانت هذه الفعلة أول فظائعه. وحينما رأى إخوانه ذلك، عمد كل واحد منهم إلى واحد من زعماء أولاد زيد الذين قابلوهم وقاتلوهم قتالا شديدا مع أنهم لم يكونوا مستعدين مثلهم… وسال الدم الكثير، ولم يفلت من الزعماء المذكورين إلا القليل، وبعضهم فر لضريح الشيخ أبي محمد صالح، فتبعهم أصحاب السيد عيسى، وقتلوا منهم في جانب الضريح».
أما المراقب المدني أرموند أنطونا، فيورد رواية أخرى لحادثة اجتماع الصلح، يشير فيها إلى أن القائد عيسى بن عمر دخل المجلس ولم يكلم أحدا، وتوجه رأسا إلى أحد زعماء أولاد زيد ويدعى ابن الشارفة، وضربه ضربة بالسيف شقت رأسه نصفين، ليجهز أصحابه على الباقين. وتبدو هذه الرواية أقرب إلى الواقع، إذ أن المراقب انطونا استقاها من فم عامل آسفي الذي حضر الواقعة.
ولم ينج حمزة بنهيمة نفسه من الهلاك إلا بأعجوبة، إذ لم يكن على الأرجح على علم بما كان يكيده قائد عبدة. وتسبب الحادث في مأساة أخرى، تمثلت في الازدحام الشديد أمام باب المدينة. ونجم عن التدافع بين الناس وفاة قرابة مائة شخص، بعد أن أمر عامل آسفي بإغلاق الأبواب خوفا من أن يعيث فيها أتباع عيسى بن عمر نهبا وقتلا. وصارت هذه الواقعة معروفة منذئذ بعام «الرفسة».
بعد حادثة الصلح، تشتتت جموع أولا زايد، فمنهم من ذهب إلى سوس ومنهم من تعلق برؤوس الجبال ومنهم من خرج المغرب أصلا. وكان مصير زعيم ثورتهم محمد بن ملوك مأساويا، ففقد سجنه عيسى بن عمر في تطوان إلى أن قضى نحبه هناك، كما سجن ابنه محمد في الرباط سبع سنوات كاملة. «أما قائد عبدة وأتباعه فصاروا يتتبعون فلول أعدائهم ويتفننون في قتلهم والتنكيل بهم وتعذيبهم بما تقشعر منه الجلود ويضطرب له الجلمود»، كما يصف الصبيحي.
* – القائد بن عمر يفتك بقبيلة خربوشة
بعد اندحار فخدة أولاد زايد، أصبحت حياة خربوشة في خطر. ولم تجد بدا من الهرب إلى أخوالها في الشاوية. هناك، تتبعها القائد عيسى بن عمر وأرسل في طلبها، لكنه جوبه بالرفض من قبل قائد قبيلة أولاد سعيد التي لجأت إليهم خربوشة. فيما بعد، أمر السلطان المولى عبد العزيز بنقلها إلى دار المخزن، وهو ما استجاب له قائد أولاد سعيد، فخرجت خربوشة يصبحها مخزني واحد. وفي الطريق، عمد أتباع عيسى بن عمر «إلى مركوب المرأة وساقوه إلى غير طريق المحلة السعيدة وحالوا بينها وبين المخزني وقصدوا بها طريق أزمور نهرا، فصادرهم وأعلمهم أنه متوجه بها للمحلة السعيدة، وأراهم الكتاب الذي بيده، فلم يلتفتوا إليه وتبعهم مسافة كبيرة ولم يقدر على مقاومتهم، لأن عددهم اثنا عشر فارسا»، كما تؤكد ذلك وثيقة مخزنية كتبها بوبكر بن بوزيد قائد أولاد سعيد إلى الصدر الأعظم أحمد بن موسى.
في سجنها لدى القائد عيسى بن عمر ذاقت خربوشة الويلات، ويذكر الصبيحي أن «القائد عيسى سجنها مدة مديدة، كان في خلالها يركبها ناقة، ويأمرها أن تغني، وهو في وسط إخوانه، الغناء الذي كانت تغنيه لأولاد زيد، ثم قتلها. ومن الثابت عنها أنها كانت وهي سجينة تجادله بكل قوة، وتقول إنها هي امرأة، وإنه إن أراد أن يشفي غيظه فليكن في الرجال».
على عكس الصبيحي، الذي يشير إلى ثبات خربوشة في سجنها، يشير إبراهيم كريدية إلى أنها استرحمت عيسى بن عمر دون جدوى، لينتهي بها المطاف قتيلة. ثم يؤكد أن الرواية الشعبية ذهبت مذهبا آخر في تناول نهاية الشيخة احويدة/خربوشة، فتذكر أنها ما تركت بابا يمكن الولوج منه إلى قلب القائد عيسى بن عمر إلا طرقته، طلبا لصفحه ورحمته. فمرة استعطفته بواحدة من أعز بناته، قائلة:
آ السعدية طلبي بوك علي
إلى اوتيت يسامح لي
واخا قتلني واخا خلاني
ما ندوز بلادي راني زيدية .
على كلمة خرجت لبلاد
واخرجت لحكام
لا سلامة ليك آليام
ومرة بابنيه، أحمد وإدريس:
هذا وعدي وأنا نصرفو حتى يعفو سيدي
ها هو يا سيدي أحمد، ها هو يا حرش لعيون
ومرة أخرى بالأولياء الصالحين :
نسالك بالمعاشي سيدي سعيد مول الزيتونة
والرتناني سيدي أحسين جا بين الويدان
والغليمي سيدي أحمد العطفة يا ابن عباد
والقدميري سيدي عمر مولى حمرية
والتجاني سيدي احمد مول الوظيفة.
اختارت الرواية الشعبية قصة نهاية مختلفة لخربوشة، إذ تذهب إلى القول -كما ينقل كريدية- بأن استرحامها لعيسى بن عمر فعل فعله المنشود في قلبه، فاستمهل النظر في أمرها، ولما طلبها من سجانها المدعو «الشايب»، أجابه هذا الأخير بأنه فتك بها بعدما أغاضه هجوها لسيده وقائده، ومن شدة غضبه على فعلة سجانه وحسرته المريرة على احويدة، أمر القائد بأن يجلد حتى يعجز عن الكلام، انتقاما واقتصاصا منه.
ومهما اختلفت طرق التصفية فإن حادة الزيدية ستظل رمزا لثقافة الصمود و المقاومة، و ستبقى عيوطها الخالدة : «خربوشة» ، «حاجتي في كريني » ، «الحصبة » ، «كبت الخيل» ، شاهدة على جهاز مخزني متخلف أزعجته الأغنية الملتزمة، وأربكته الكلمة الصادقة فجابهها بالقهر و الجبروت و الطغيان.
Share this content:
إرسال التعليق